كواليس 15 دقيقة.. هكذا حسمت موريتانيا رئاسة البنك الأفريقي للتنمية

على متن طائرة خاصة، وصل الرئيس الجديد للبنك الأفريقي للتنمية سيدي ولد التاه، ووزير الاقتصاد والمالية الموريتاني سيد أحمد ولد ابوه، مساء أمس الجمعة إلى نواكشوط، وسط احتفالات شعبية جابت عددا من شوارع العاصمة نواكشوط.

استقبل ولد التاه في القصر من طرف الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني في القصر الرئاسي، وهنأه على النصر “التاريخي” الذي حققه في أبيدجان يوم الخميس، ولكن ولد التاه أرجع الفضل إلى “الجهد الجبار” الذي قامت به موريتانيا.

ولكن كثيرًا من الموريتانيين يتساءلون عن كواليس هذا النصر، فكيف نجح الموريتانيون في إقناع دول أفريقيا واقتصادات العالم الكبيرة بالتصويت لهم؟

“صحراء ميديا” حصلت على معلومات حصرية لكواليس فوز مرشح موريتانيا سيدي ولد التاه، برئاسة البنك الأفريقي للتنمية، وكيف أديرت الأمور في 15 دقيقة فاصلة بين الجولة الأولى والثانية من التصويت.

فماذا حدث خلال 15 دقيقة فقط، وما تفاصيل معركة كانت تدار بالثانية، وكيف كسب الموريتانيون معركة الوقت؟

تسيير التصويت

كان سيدي ولد التاه القادم من رئاسة المصرف العربي للتنمية في أفريقيا، ووزير الاقتصاد السابق، يتمتع بملف قوي ومميزات تجعله مرشحًا لا يستهان به، ولكنه كان بحاجة إلى حملة دبلوماسية وإعلامية قوية ومحكمة.

وفي هذا السياق قال مصدر خاص لـ “صحراء ميديا” إنه بإشراف من رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني ومتابعة من الوزير الأول المختار ولد اجاي “وضعت استراتيجية علمية لمواجهة أي تحديات قد تحدث خلال التصويت”.

وأضاف المصدر أن هذه الاستراتيجية كان يتولى تنفيذها وزير الاقتصاد والمالية سيد أحمد ولد ابوه، بصفته رئيس لجنة تنسيق حملة المرشح، ولكونه محافظ موريتانيا لدى البنك.

وكشف المصدر أنه “في مساء اليوم السابق للتصويت (مساء الأربعاء 28 مايو)، تم ضبط آخر اللمسات على التسيير الميداني لهذا الحدث من طرف حملة المرشح الموريتاني”.

وأصدر الرئيس الموريتاني تعليماته بتنفيذ الخطة من طرف وزير الاقتصاد والمالية بصفته المحافظ لدى البنك الإفريقي، والوحيد الذي يسمح له بدخول قاعة التصويت، صحبة المحافظ المساعد؛ المدير العام للتمويلات والتعاون الاقتصادي في الوزارة محمد سالم ولد الناني.

ولا يسمح للسفراء ولا لأعضاء الوفود بالولوج لقاعة المؤتمر، حيث يدور التصويت وتطبخ الصفقات بين الوفود المشاركة ما بين جولات التصويت.

اليوم الحاسم

مصادر “صحراء ميديا” أكدت أنه مع تمام الساعة الثامنة صباحًا، يوم الخميس 29 مايو، كان الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني في مكتبه بنواكشوط، على اتصال مباشر مع وزير الاقتصاد والمالية الموجود داخل القاعة.

خصص الاتصال الأول لتشخيص مجريات الأمور، ووضع اللمسات الأخيرة استعدادا لانطلاق التصويت.

في الوقت ذاته كان الرئيس الموريتاني يجري اتصالات مع عواصم أفريقية، منها الجزائر وأبيدجان، حيث أجرى ولد الغزواني ست اتصالات صبيحة الخميس مع الرئيس الإيفواري الحسن واتارا، لتنسيق الجهود وحشد الدعم.

مع تمام الساعة العاشرة صباحًا بدأت الجولة الأولى من التصويت، والتي حصل فيها سيدي ولد التاه على نسبة 33 في المائة من مجموع الأصوات، ليحل في المرتبة الثانية بعد مرشح زامبيا الحاصل على نسبة 40 في المائة من مجموع الأصوات.

خلال إعلان النتائج كان وزير الاقتصاد والمالية على الهاتف مع الرئيس الموريتاني يبلغه بالنتائج أولًا بأول، وأوضح له أنها كانت “جيدة جدًا”، خاصة أن مرشح موريتانيا ضمن 47 في المائة من أصوات الأفارقة الذين يمتلكون لوحدهم 60 في المائة من أسهم البنك.

قرر الرئيس التحرك نحو الأصوات المؤثرة من خارج أفريقيا، لتبدأ معركة شاقة من المفاوضات ما بين الجولتين، واستمرت لأقل من 15 دقيقة، ولكنها كانت حاسمة وهي التي حددت ملامح الفوز الموريتاني الساحق.

فماذا تم خلال هذه الدقائق القليلة، ليمنح موريتانيا رئاسة البنك الأفريقي لخمس سنوات قادمة؟

سباق الثواني

كان الخطأ الذي ارتكبه منافسو مرشح موريتانيا هو تركيزهم خلال الحملة على جمع الأصوات من خارج القارة الأفريقية، بينما نجحت موريتانيا في حشد دعم أفريقي كاسح، وركزت بين جولات التصويت على حشد الدعم من خارج القارة الأفريقية.

وضع الموريتانيون خطة محكمة بدأ تنفيذها خلال الفترة الفاصلة بين الجولة الأولى والثانية.

مصادر خاصة، أكدت أنه مباشرة بعد مكالمة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مع وزير الاقتصاد والمالية سيد أحمد ولد ابوه، أجرى اتصالًا هاتفيًا مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الموجود حينها في زيارة إلى سنغافورة، وطلب منه مساندة “فورية وسريعة”.

كان الرئيس الموريتاني واضحًا مع الفرنسيين، حيث طلب منهم التحرك على مستوى مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة وألمانيا وكندا وبريطانيا واليابان، وهي دول كانت قد صوتت لصالح مرشح زامبيا.

كان الموريتانيون قد ضمنوا في الجولة الأولى تصويت كل من فرنسا وإيطاليا، من بين أعضاء مجموعة السبع الصناعية الكبرى.

رغم أن التصويت كان يجري بالتزامن مع “الخميس المقدس” أو “عيد الصعود” عند المسيحيين، أجرى الرئيس الفرنسي اتصالًا مع وزير ماليته وطلب منه الوقوف إلى جانب موريتانيا، حينها تحرك الوفد الفرنسي داخل قاعة التصويت، نحو وزير الاقتصاد والمالية الموريتاني وأبلغوه أنهم تلقوا تعليمات بأن يكونوا تحت تصرف الوفد الموريتاني في أي مفاوضات.

التأثير السعودي

في الوقت ذاته كان ولد ابوه ينسق بشكل مباشر مع الوفد السعودي الذي رمى بثقله من أجل إقناع القوى الكبرى المؤثرة في البنك الأفريقي للتنمية، من أجل إقناعهم بالتصويت لصالح مرشح موريتانيا في الجولة الثانية.

الوفد السعودي داخل القاعة برئاسة مسؤول العلاقات الدولية في وزارة المالية السعودية رياض خريف، نجح في إقناع المملكة المتحدة (بريطانيا) بالتصويت في الجولة الثانية لصالح مرشح موريتانيا.

كما حصل السعوديون، وبإسناد من الفرنسيين أيضًا، على التزام من الولايات المتحدة واليابان بالتصويت لصالح مرشح موريتانيا في الجولة الثالثة، إذا لم يتمكن مرشح زامبيا من تحسين وضعيته في الجولة الثانية.

خلال الدقائق الفاصلة بين الجولة الأولى والثانية غيرت كل من مصر والمغرب مواقفها، وقررت التصويت لصالح مرشح موريتانيا، ليضمن الموريتانيون أصوات 11 دولة عربية ممثلة في البنك، باستثناء جزر القمر التي سبق أن أبلغتهم أنها ستصوت لصالح مرشح السنغال بسبب التزام قطعه رئيسها لرئيس البنك الأفريقي للتنمية المنتهية ولايته.

قلب الطاولة

هكذا نجح الموريتانيون خلال أقل من 15 دقيقة في قلب الطاولة، والحصول في الجولة الثانية على الصدارة بنسبة 48 في المائة من إجمالي الأصوات، و68 في المائة من أصوات الأفارقة.

بينما تراجع مرشح زامبيا إلى المرتبة الثانية بنسبة 36 في المائة من إجمالي الأصوات، و18 في المائة فقط من أصوات الأفارقة.

لقد حسمت هذه النتيجة بشكل مسبق الجولة الثالثة والأخيرة، حيث ضمنت تغيير قرار الولايات المتحدة واليابان لصالح مرشح موريتانيا، وهو ما يعني حسم الفوز بشكل نهائي، وهكذا كسب الموريتانيون سباق الوقت ولعبوا أوراقهم في اللحظة المناسبة.

فبعد الشوط الثاني تمكنت جهود التحرك الميداني والاتصالات من نواكشوط من ضمان تصويت اليابان وكندا اللتين أعلنتا للوزير الموريتاني قرارهما، كما انتزعت السعودية ونيجيريا تصويت الولايات المتحدة لصالح موريتانيا بعد أن أقنعوا وفدا الدولتين أن المرشح الزامبي في طريقه إلى خسارة الرهان.

الاختراق الأفريقي

إن أكثر ما لفت انتباه المراقبين في الاستراتيجية الموريتانية، هو أن مرشح موريتانيا دخل السباق وهو يحظى بدعم أفريقي غير مسبوق، فأظهرت نتائج الجولة الأولى أنه “مرشح أفريقيا” متقدما على مرشحين بدا واضحا أن قوتهم تأتي من خارج القارة.

وتأكدت قوة موريتانيا في أفريقيا في الجولة الثانية من التصويت، وهو ما أرجعه وزير الاقتصاد والمالية سيد أحمد ولد ابوه في تصريح صحفي بعد نهاية التصويت، إلى نجاح رئاسة الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني في رئاسة للاتحاد الأفريقي العام الماضي.

أما على مستوى كواليس التصويت، فقد صوتت مالي والنيجر وبوركينا فاسو (تحالف دول الساحل) لصالح مرشح موريتانيا منذ الجولة الأولى، ودون أي تردد.

وأكدت مصادر مطلعة لـ “صحراء ميديا” أن الدول الثلاث لتفادي أي مفاجئات ولتوحيد موقفها الداعم لموريتانيا، اتفقت على منح توكيل للوزير الأول النيجري محمد زين، مكنه من التصويت بالنيابة عنها.

واستطاعت موريتانيا أن تتجاوز كل الصراعات الإقليمية التي تضرب منطقة غرب أفريقيا، وخاصة الخلافات العميقة بين دول الساحل والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، فأجمع الطرفان على دعم مرشح موريتانيا.

المصادر أكدت أن كوت ديفوار ونيجيريا وغانا لعبت أدوارًا حاسمة في حشد الدعم لمرشح موريتانيا، رغم وجود مرشح من السنغال، البلد العريق والقوي في مجموعة (إيكواس)، حتى أن دولة غامبيا صوتت منذ الجولة الأولى لمرشح موريتانيا.

وفي منطقة البحيرات الكبرى وسط القارة الأفريقية، حققت موريتانيا اختراقًا كبيرًا، وتجاوزت كل الصراعات الإقليمية هناك، حيث دعمتها دول مثل أوغندا ورواندا، التي كان رئيسها بول كاغامي يتابع شخصيًا التصويت للمرشح الموريتاني.

وهكذا حصل مرشح موريتانيا على دعم أفريقي كبير، قادم من مختلف مناطق القارة، على خلاف بقية المرشحين الذين بقيت دائرة دعمهم ضيقة جدًا، فاستحوذت موريتانيا لوحدها على أصوات 72 في المائة من أصوات أفريقيا.