من تموز بغداد إلى حزيران طهران!

 يأبى التاريخ إلا أن يعيد نفسه، ويصرّ فارق الزمكانية على أن يفرض كلمته في سيناريو الإعادة، محملا بغبار التباين ورياح المفارقة..

  من بغداد كانت عقارب ساعة التاريخ تشير إلى الـ1981/6/7 حين أجهضت تل أبيب البرنامج النووي العراقي وهو بعدُ في طور التشكّل الجَنيني، في ضربة استباقية أجهزت على مفاعل تمّوز بغارة جوية خاطفة استغرقَت بضع ساعات، ولم تصادِف عربدةُ نشوتها سوطَ ردّ ملجِما، في توقيت تاريخي شُغِلت فيه بغداد بعقابيل جراح الحرب العراقية الإيرانية المثخِنة القائمة (1988/1980)!

وأد.. بعد بلوغ الأشدّ!

ولأن المفارقة تملي كلمتها، كان تمّوزُ بغداد قد أفلت من استئصال طهران، لترضى الأخيرةُ من غنيمة استهدافه بأضرار، تداركتها يد الرأب في الوقت المناسب، قبل أن تنسفه غارة قصف إسرائيلي سريعٍ مجْهِز، كانت إيران على موعد مع فُجاءةٍ كفُجاءته وتشفٍّ كتشفيه، بعد 44 سنة، لتنشد طهران ـ بلسان حالها:

 إنما ضُربتُ يوم ضُربَت بغداد!. غير أن فارق التوقيت أفرغ الضربة الإسرائيلية المفاجئة من فعالية إجهاض مفاعل تمّوز؛ حيث كان برنامج إيران النووي قد طوى طور التخصيب وتفعيل أجهزة الضغط المركزي، لتغلّظ الغارات الإسرائيلية فتل استهدافها باغتيال منشأتين دماغيتين بشريتين؛ العالمين النوويين الإيرانيين مهدي طهرانجي وفريدون عباسي، كدأبها من المفاعلات النووية البشرية العراقية من قبل.. ولكن أوان الاستئصال كان قد فات، ولم يبق ـ رِبحا للوقت ـ إلا الاكتفاء بعاملي المفاجأة والاختراق مع ما تحتهما من ملحقات الإنجاز العسكري و"النووي"، في انتظار موعد إنقاذ تضبط ساعته على توقيت العاصمة واشنطن!

**صدمة الردّ**

    ولأن مَن أمِن المَكرَ استمرأ العدوان غرّ الاحتلالَ الإسرائيلي خلوّ الجوّ له في الجبهة السورية، واستولى عليه غرور التمادي، فمضى في استباحة الأجواء الإيرانية، وكأنه يظن أن ساعة الزمن توقفت عند توقيت تمّوز أوزيراك 1981م! 

   ولعل باعث ذلك الغرور والتمادي استمراء غارات القصف التي استباحت سماء سوريا وأجواء القصر الرئاسي وحومات دمشق بعد احتلال جبل الشيخ، تحت غطاء إقرار أمريكي ظل طوع بنان رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وخاتما في أصبعه، بالتزامن مع دخول الرئيس الأمريكي على خط "المشاغَلة" بتصريحاته، بالتوازي مع مناورات سياسية أمريكية تقاسمت خلالها تل أبيب مع واشنطن دوري الإلهاء والانسياح؛ فتحمّلت الولايات المتحدة جانب التلويح بخفض التصعيد، وحملَت "إسرائيل" إثم الاجتراح الحربي، وقد بدا ذلك جليا في الوضعين الفلسطيني (حرب غزة) والإقليمي (الملف الإيراني). لكن طهران قطعت شكّ التعلّل بيقين الرد، بعدما لبس مرشدها الأعلى لأْمته، وارتدى لباس الحرب!

**دوران في فلك المقاومة**

     وحتى أسقي حديثي بماء العنوان أعلاه، أعود إلى موضوع تمّوز بغداد وعلاقته بحزيران طهران، فأشير إلى أن إيران قد مدّت بسبب إلى رضى شعوب المنطقة بانحيازها إلى خيار المقاومة ودعم جبهات الإسناد، الدائرة في فلك "محوره"، وتنكّبها سبيل التطبيع في معلن موقفها الرسمي، مما سهّل أطْرَ "مسائل الخلاف" في سياقها، ويسّر "تقدير الضرورة بقدرها"، في واقع إقليمي طوت فيه الرسمية المصرية (جارة غزة بالجنب) حدودَها البريةَ دون قافلة التضامن الشعبي المغاربية العابرة لجغرافية سايكس بيكو، بعدما أخلت حدودها البرية الشرقية (محور فيلادلفيا) لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وأسقطت عنه إبراز التأشرة، على حين كفَت الرسمية الأردنية الاحتلال الإسرائيلي مؤنة ذبّ الصواريخ الإيرانية باعتراضها في صفحة سمائها! 

**نَسْخ تاريخي**

    لكنّ فارق التوقيت رفع رأسه مرة أخرى؛ لينسخ تاريخا هَزمت فيه اسرائيل الجيوش العربية المتحدة في ستة أيام (نكسة 1967)، إذ بغتت نواضحُ غزة الاحتلال في هجوم السابع من أكتوبر، حاملة معها الموت الزؤام، لتصمد كتائبُ وألوية الأجنحة العسكرية لفصائل المقاومة في وجه عدوان الاحتلال على مدى نحو سنتين من حرب الإبادة، في ثبات ميداني متواصل تخللته أعمال عسكرية مصدرها جبهات الإسناد في لبنان والعراق، وصَرصرةُ بازِيها في اليمن؛ حيث جاء تل أبيب هدهدُ الصواريخ من سبأ بنبأ يقين، متحديا بُعد الشقة!

  ولقد شفَت مشاهد قصف إيران مدينةَ تل أبيب - عاصمةَ كيان الاحتلال - صدورَ قوم مؤمنين بعدالة القضية الفلسطينية وشرعية سلاح المقاومة وحق الردّ الغزّي، وأقامت في ذهن شعوب المنطقة شرف الموقف في تصريح وزير الدفاع الباكستاني خواجة محمد آصف؛ الذي أعلن أن "باكستان تقف مع إيران، وستدعمها بما أوتيت من قوة"، في موقف رسمي يجسد عزة المؤمن القويّ.. كما أعادت مشاهدُ قصف تل أبيب شريط ذكريات الموريتاني الحرّ الغيور إلى سَطر ساطع من تاريخ حرب الخليج (1991)، جاء فيه الرد العراقي على عدوان اسرائيل بـ "أثر رجعي" بعد عشر سنوات من تدمير مُفاعل تموز، ليصدح أثير الإذاعة الرسمية (إذاعة الجمهورية الإسلامية الموريتانية) معلنا أنّ "صاروخ الحسين يحُلّ ضيفا على مدينة تلّ أبيب!