الهندسة الاجتماعية؟

تحرص الحكومات المتسلّطة على ترييف المدن، وتشجع، بكل الوسائل، الهجرة من الريف إلى المدينة. وتسعى إلى التحكّم في المجال السكان والحضري وإخضاعه لتجارب الهندسة الاجتماعية وهي مجال غير معروف على نطاق واسع، وتقتصر معرفته على مبادئ عامة تدرس ضمن مباحث السيسيولوجية وعلم النفس وحتى الإعلاميات وما يتصل بها.

 

 

لكنه في النهاية "علم" خطير بكل المقاييس تترتب عنه نتائج بالغة الأثر على الاجتماع والدولة في العصر الحديث، وقد يستخدم في اختراق العقول والتلاعب بالإنسان.

 

 

يذكر رئيس وفد مصري زار الصين في الستينيات أنه استمع إلى عرض قدمه مسؤول الحزب الشيوعي الصيني عن "الهندسة الاجتماعية"، وذهل الضيف المصري وهو يستمع لأول مرة إلى هكذا موضوع وذهل أكثر عندما تساءل عن الإجراءات الصينية لمواجهة زحف سكان الريف على المدن وكان رد مضيفه الصيني: هذا الشيئ لا يزعجنا! بل نحن نحرص على تشجيعه ودعمه، لأننا لا نريد للمدن أن تكون حضرية بالكامل، لأن ذلك سينتج طبقة متمدنة ومستنيرة وقادرة على فرض مطالب ديمقراطية ومواقف مستقلة. ثم أسهب في الحديث عن علاقة ذلك بما أسماه "الهندسة الاجتماعية" للتحكم في السكان والمجال الريفي والحضري والذوق العام.

 

 

كلام في غاية الخطورة ويكشف خفايا كثير من الممارسات الرسمية، المتسلطة، الحريصة على كبح التحول الاجتماعي الايجابي، ومنع مجتمعاتنا من التمدن والنماء والرقي والتخلص من الجهل والتخلف والاستبداد.

 

 

هذا التلاعب بالهندسة الاجتماعية يكشف سر التدهور المريع في المدن العربية، وفشل محاولات التمدين الثقافي والسياسي، وانحطاط الذوق الاجتماعي، وسيطرة القبح والقذارة على المدن الكبرى حديثة النشأة.

 

 

لم يكن غريبا أن تبدأ عملية الترييف مبكرا في عاصمة موريتانيا، بدءا باسمها الغريب الذي لا يحمل شحنة نبيلة ولا حضارية، بل هو مجرد إشارة إلى بئر معطّلة منسوبة إلى جذع يابس؟ أما المكان فهو يصلح لكل شيئ إلإ للعمران والنماء، ثم أصبح اليوم بيئة قذرة ونتنة ومخيفة ومهلكة طاردة للحياة.

 

 

اختفت وبسرعة بعض المشاريع التمدينية الأولى مثل: حديقة الحيوانات التي هي مدرسة إنسانية وبيئية، وانهارت نواة المتحف والمكتبة والمسرح.... ولم يوجد لحد الساعة حي راق بمعنى الكلمة، بل مجموعة من الدور الضخمة متنافرة الألوان والأشكال في مستنقع وبيئ يعمره البعوض والحيوانات السائبة، ما يجسد القبح المعماري والبؤس المعيشي ويعرّي البلد أمام ضيوفه ويمنع نمو القيم المدنية من ذوق رفيع وتأنق ورفاه، فانتكست الأفكار العقلانية والسلوكات المدنية وتم الرجوع إلى نقيضها تماما.

 

 

لقد أصبحت غالبية أحياء العاصمة بدون مساحات خضراء ولا حتى ترابية تسمح للسكان بشيئ من الفسحة والخروج من أسْر ضيق المنازل إلى فضاءات أرحب تسمح بالتنفس الصحي والنظر الفسيح. لاسيما وقد أثبتت الدراسات أن إحساس الناس بأن المساحة التي يعيشون فيها أضيق من العادي، يخلق مشاعر عدوانية، وقد يدفعهم إلى الانفجار.

 

 

ليس ذلك إدانة للريف الفطري والذي له مكانته وأهميته، لأنه مكمن "الفضائل" الفطرية من نخوة وشرف وكرم وشجاعة، وهو مجال يسمح للمجتمع بحفظ روحه حرة وأصيلة، أما المدن فهي مكمن "الرذائل" العصرية التي تفرضها الحداثة ويجلبها التحضر، لكنها أيضا موطن بناء العلاقات المادية العقلانية القائمة على المصالح والتي تسمح بتطور المجتمع فكرا ومؤسسات. 

 

 

لكن عندما يتم قتل الفطرة ويتحول الريف إلى بداوة عشوائية، ويتم اغتيال المدينة، التي لم تكتمل، تحت وقع الترييف الممنهج والهندسة الاجتماعية المخابراتية، تنزع المجتمعات إلى خيارات قلقة وقد تصل إلى الكفر بكل شيئ.

 

 

ولله الأمر من قبل ومن بعد