كانت لحظة مأسوية بكل المقاييس ومحطة بارزة من محطات الصراع الأبدى بين الخير والشر داخل هذه الربوع. لقد هجم الاستعمار الفرنسى على المدينة الوادعة فى أحضان جبال "تكانت" بعد فاجعة قتل رموزه فى محاولة بائسة للانتقام من الرجل الذى كان نجم المقاومة ساعتها ( محمد المختار ولد الحامد)..
لقد عبث قوات الفرنسيين وبعض أعوان المستعمر بالمدينة ومجمل القاطنين فيها، وعلى جبالها الشامخة نصب الاستعمار الفرنسى مدفعيته الحديثة مستهدفا كل المنازل والسكان اثر تلقيه مقاومة شرسة من الثلة المتمركزة فيها، لقد نجح فى النهاية فى تشريد الجمع الذى تداعى قبل عقود لتأسيس المدينة بدعوة من أبرز رجال الحله (أمينوه) ، ونكل برموز الخير والصلاح فيها، هدم المنازل والأعرشة وأجبر الجميع على المغادرة إلى الريف نكاية بمن احتضنتهم جغرافيا ساحرة، وسكنت أنفسهم عزة نفس لم تستوعب سلب الأرض من طرف الغازى الغريب،رغم عروض المستعمر التى أستدرجت آخرين لقاع العمالة السحيق.
لاتزال آثار "الرشيد القديم" شاهدة على ضراوة المعارك التى خاضها أبناء تكانت ضد المستعمر الفرنسى، ولاتزال بقايا منزل المجاهد الراحل محمد المختار ولد الحامد خلف المسجد العتيق بالمدينة شاهدة على فتوة رجل تميز بالعلم والصلاح وكره الاستعمار.
كانت الهجمة الفرنسية في السادس عشر من اغشت 1908 مؤذنة بالخراب الثانى على أرض "آغ بنبرت" أو " البمبارى الصغير" ، بعد أن سجلت المدينة أول صراع مدمر فى تاريخها اثر اندلاع الحرب التاريخية بين "التاس" و"ترتلاس" على ضفتى الواد الجميل، والتى انتهت برحيل الفريقين عن الوادى إلى وجهة مجهولة، تاركين شواهد تاريخية على وجود عمران لم يحفظه صناعه،وثروة طبيعية لاتزال إلى اليوم شاهدة على جمال المنطقة وأصالتها وقدرتها على مواجهة الصعاب.
فى ثلاثينيات القرن الثامن عشر الميلادى قامت أولى محاولات التأسيس بدعوة من أحد رجال المنطقة البارزين، إنه سيد أحمد ولد سيد الأمين (أمينوه) الذى قاد عملية التأسيس قادما من "كصر البركة" و"المينان" قبل ذلك، وهو التطور الذى ظل مصدر ارتياح لمجمل السكان إلى غاية وصول الفرنسيين وانخراط أبناء الرشيد فى المقاومة العسكرية المناوئة له.
كانت الأوضاع الاجتماعية المضطربة بالولاية قد جنحت للهدوء، وتضافرت عدة عوامل لبسط السيطرة والإستقرار بها، وتجاوز الجمع أو يكاد حزازات النفس ومشاكل الداخل المؤلمة، وعزز سكان الرشيد استقرارهم بتفعيل العلاقة مع المحيط الإجتماعى فى المنطقة ضمن تحالف ثلاثى يقوده "سيد أحمد ولد أمينوه و الأمير محمد ولد امحمد شين والعلامة سيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم. لكن تصرف المستعمر أحبط جهود الرجال الثلاثة وأسس لمراحل أخرى من الحياة العصرية فى تكانت.
تجربة يقول ابن البلدية الراحل "أحمد ولد أج" (والد العمدة الحالى) إنها تركت تركة ثقيلة فى الأنفس، وإنه لما حاول بعد رحيل والده تجميع الأسر من جديد، وتأسيس مدينة عصرية، رفض البعض خوفا من إعادة التجربة الماضية، مفضلين حياة البادية ونمط العيش فيها.
لكن الضغط الذى عانت منه المنطقة جراء الجفاف دفع بالجميع إلى تغيير موقفه، وساهم سكان "لكصر القديم" فى التأسيس للمدينة الجديدة، رغم العزلة الكبيرة التى عانى منه السكان، وضعف الوسائل المادية. وتداعى أغلب سكان الريف إلى المنطقة التى تحولت إلى أيقونة مجد يصدع به الشعراء كلما أظلمت دياجير الحياة واستسلم الناس لليأس جراء التهميش.
كانت الشاحنات الكبيرة تمضى أربعة أيام بين عاصمة الولاية والرشيد بفعل صعوبة الطريق، وكانت الحركة على طرفى الوادى بالغة الصعوبة كذلك، لكن الحنين الذى عبر عنه ابن المنطقة الراحل محمد ولد آدبه فى أيقونة أشعاره (لايحجلك عن ناسيك (*) حسم المعركة لصالح الإستقرار فى الرشيد رغم مغريات العاصمة وبعض المدن الأوربية التى استهوت كبار أبنائها، وأبرز رموزها خلال العقود الأخيرة، وحول المنطقة من أطلال هجرها الأهل وتنكر لها السلطان وتشفى فيها العدو، إلى مصدر اشعاع حضارى يصارع عزلة الجغرافيا وظلام التهميش وصعوبة الواقع بتاريخ يأبى الإنكسار.
لم يشفع للرشيد ماضيه الثقافى، ولاعمر الإستقرار فيه والذى ناهز 200 سنة، ولامساحته الشاسعة (30 كلم مربع)، ولاعدد سكانه (25 ألف نسمة) ولاواحات النخيل الغناء ،ولا السهول الشاهدة على جمال الأرض ، ولا الجبال الناطقة بمكانة المدينة وتضحيات رجالها لدى صناع القرار فى البلد طيلة العقود الماضية.
مركز إدارى بصلاحيات محدودة هو ماجادت به تقسمة الجغرافيا السياسية الظالمة فى البلد المنكوب باختلاف رموزه سنة 1968، ومقعد فى البرلمان محسوم بحكم الديمغرافيا البشرية منذ بداية المسلسل الديمقراطى 1991، وأشعار جادت بها قرائح أبرز أدباء المنطقة وسمعة لم تبذل فيها الدولة الحديثة أكثر من السماح لديمى بنت آب وسيداتى ولد آب وسدوم ولد أيده والخليفة ولد أيده من الصدح بها خلف مكرفون متواضع، مرددين بعض الأشعار الجميلة التى صاغها "محمد بوسروال" و"محمد ولد آدبه" و"سيدة محمد ولد الكصرى" و"أحمد ولد أج"، ومحمد الأمين ولد ختار،(*) ، بصوت رخم تتبادله عواطف المحرومين، وتألفه أذن المستمع مهما كان انتمائه وعمره وثقافته وصخب الحياة من حوله...
56 سنة من الإستقلال المزعوم عن الدولة الكبولانية ذات الإرث الثقيل مع سكان الرشيد لكن الأمور على الأرض لم تتغير والتحجيم المدروس مستمر، تغيرت الأوجه لحاكمة ورحل ابزر أبناء المنطقة ولم تتغير نظرة السلطة للمركز الإدارى المحروم من النمو الطبيعى ككل الأشكال الإدارية التى أخذت مكانتها فى الساحة خلال العهد القريب ؟.
---
---
(*) محمد الأمين ولد ختار سجل ذكرياته مع الرشيد فى قصائد بالغة التأثير، ولعل أشهرها القصيدة التى كتبها ردا على الذين طالبوه بالعودة إلى ديار قومه ومغادرة المنطقة بعد طول مقام فيها قائلا :
فتى يمسى ويصبح بالرشيد ... يعلل بالنسيم وبالنشيد
واكمام النخيل تريه زهوا .... على جنبات ذ القصر المشيد
يحن لأهله وفضول مال .... لعمر الله لم يك بالرشيد