قد يحتمي البعض من ماضية الأصيل بحاضر افتراضي مؤقت ومهتز ، ويعيد اختراع نفسه من جديد ، خشية ان يسقط الى مرتبته الدنيا ، فى حالة من عدم الامان والتردد مذعنة لحاجة متصلة للانتهاز والابداع فى التخاتل، مما يكرس لدى البعض حس المغامرة و ينمي قدرته على التحايل ، كي يستفيد وظيفيا أثناء تبادل الأدوار، وان لا يكون هو الضحية ـ على الأقل ـ فكلما هبطت تنويعة فى سلم التراتب النخبوي فى مجتمع او فى زمن بعينه كلما سهل الاستغناء عنها واستبدالها بغيرها .
لذلك طفقت قيادات الدولة الموريتانية تحيط نفسها بحاشية أوبطانة من أهل الثقة " بطانة السوء "، التي يعتقد أولئك المسؤولون ـ واهمون ـ أنهم قد يضمنون بها استمرارهم في مناصبهم لأطول وقت ممكن ، بغض النظر عن اعتبارات مصلحة الوطن والمواطن .
واستبعدت هذه القيادات في نفس الوقت بطانة أهل الخبرة التي يؤدي بها عادة المسؤولون عملهم في دولة القانون على أكمل وجه ، لأنهم لايثقون فيها لاعتقادهم أنها ليست حريصة على استمرار أي مسؤول في منصبه ، حتى ولو كانت هذه البطانة مستعدة لتقديم أفضل الإستشارات وأحسن النصائح ، لأن البطانة الصالحة عادة تواجه الحاكم والمسؤول بأخطائه ، ولا تجامله في الحق ، خلافا لأفراد بطانة اخرى ينظرون في مصالحهم فقط ، ويعينون على الخطأ ولا يرشدون إلى الصواب .
ومع ذلك تتنوع أهداف بطانة السوء ، فمنهم من يريد أن يقوى نفوذه ويكون هو صاحب الأمر والنهي حتى يصبح هذا المسؤول الذي يعمل تحت امرته لا يعرف غيره ، ومنهم من يحاول استغلال قربه من الحاكم فيحجب الناس عنه ، فتضيع حقوق الرعية ، وخصوصا أصحاب الكفاءات ، ومنهم من يلهث وراءه لانتزاع توقيعاته بغية تحقيق مكاسب خاصة ورخيصة تغمط حقوق الآخرين ، وفي هذه الحالة تنعدم دولة القانون ، وتتلاشى كافة مؤسساتها ، ويتراكم نفوذ بطانة السوء ، وتقوى شوكتها ، حتى تصبح "حكومة خفية" وعند ذلك تكون الدولة هي الضحية .
ومع أن مفردة البطانة في اللغة حسب ما جاء في لسان العرب هي : " ما بطَنَ من الثوب وكان من شأْن الناس إخْفاؤه والظهارة ما ظَهَرَ وكان من شأْن الناس إبداؤه " ، إلا أنها في الاصطلاح تأتي بهذا المعنى الخطيرالذي ورد في فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني :" البطانة الدخلاء ، جمع دخيل ، وهو الذي يدخل على الرئيس في مكان خلوته ، ويفضي إليه بسره ، ويصدقه فيما يخبره به مما يخفى عليه من أمر رعيته ، ويعمل بمقتضاه " .
قال الشاعر:
أُولَئِكَ خُلَصَائِي نَعَمْ وَبِطَانَتِي ... وَهُمْ عَيْبَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ قَرِيبِ .
وقد حذرالقرآن الكريم من بطانة السوء قال تعالى : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَاعَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ) .
وقد تناولت الأحاديث النبوية الشريفة أثر بطانة الخير وبطانة الشرعلى الحاكم : فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه ، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه ، فالمعصوم من عصم الله تعالى. وفي رواية هذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من والٍ إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، فمن وُقي شرها فقد وُقي " وقال : إذا أراد الله بالأمير خيرا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه ، واذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء ، إن نسي لم يذكره ، وإن ذكر لم يعنه .
أما في الأثر فإن الخليفة عمر بن عبد العزيز، قد اتخذ أحد العلماء مستشاراً ، وقال له: " راقبني فإذا رأيتني ضللت فأمسكني من تلابيبي وهزني هزاً شديداً ، وقل لي: اتق الله يا عمر، فإنك ستموت " .
ومرة كان الإمام الحسن البصري عند والي البصرة وجاء للوالي توجيه يغضب الله عز وجل ، فإن نفذه أغضب الله ، وإن لم ينفذه أغضب يزيد ، وربما عزله فقال للإمام ماذا أفعل؟ قال له إمام التابعين: اعلم أن الله يمنعك من يزيد ، ولكن يزيد لا يمنعك من الله .
وكتب احد الصالحين الى احد الامراء: وشاور في أمرك الذين يخافون الله تعالى، واحذر بطانة السوء ، فإنهم انما يريدون دراهمك ويقربون من النار لحمك ودمك .
ويقول الطهطاوى في كتابه مناهج الألباب : " كانت حكماء مصر تذكر الملوك دائما بالحقوق والواجبات وتحثهم على التمسك بالفضائل الملوكية ، وتلعن من يصرفهم عنها من بطانة السوء وأهل النفاق ، وكانت الملوك في تلك الأوقات يشتغلون بمطالعة الحكم والاداب والمواعظ والتواريخ ، وكل ما يرشد إلى العدل والاستقامة " .
وهنا في موريتانيا يتحدث التاريخ عن اختيارالأمراء في هذا البلد لبطانة أهل العلم والورع والجرأة ، فقد قام هؤلاء العلماء المختارون بتذكير الأمراء بالحقوق والواجبات والحث على التمسك بالفضائل على أحسن وجه ، فكانوا بطانة خيرتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، حتى وجدنا أن مشيخة من علمائنا الأجلاء في تلك الفترة قد أصدرت أحكاما قضائية وفتاوى شرعية ضد الأمراء الذين اتخذوهم بطانة ، وجادلوهم في جميع الأمور، بما في ذلك أحوالهم الشخصية والسياسة وأحوال الرعية .
ويفهم من هذا كله ، ومن أثرالسلف الصالح ، أن نوعية البطانة تعتمد في الأساس على ما يقرره ويختاره الحاكم أوالقائد أو المسؤول لأن " الرعية على قلب الأمير" ، ومع ذلك يجب على هؤلاء جميعا توخي الحذر الشديد من بطانة السوء ، التي علمنا الحديث النبوي الشريف أن من وُقي شرها فقد وُقي .
ومع أن بطانة السوء تعمل باستمرارعلى تضييع حقوق الرعية ، فإنها قد تساهم أكثر من ذلك في صناعة الحاكم المستبد عن طريق تعظيم وتمجيد ما يقوم به من أفعال أو أقوال مهما كانت صغيرة ، وتصوره وكأنه الملهم ، وأحيانا تتخطى الحدود بخيال مريض ، فتصف الحاكم بصفات تصل به إلى حد التأليه ، ويخبرنا التاريخ عن الكثير من هذه الحالات ، حيث يقول الشاعر العربي القديم ابن هانيء في ملك مصر المعز لدين الله العبيدي الفاطمي :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار .. فاحكم فأنت الواحد القهار
فكأنمــا أنت النبي محــمــد .. وكأنما أنصارك الأنصار.
لذلك فمثل هذا الموقف الخطير يتطلب منا نحن الموريتانيون اليوم الذين ابتلينا بظاهرة بطانة السوء ، التي عطلت دور دولة القانون في بلادنا ، بحيث لم تتوفر المصداقية ، والشفافية في أفعال الدولة ، ولم يحدث التعاطي التلقائي مع القضايا المتعلقة بضمان الحقوق والواجبات والحريات العامة ، أن نسلط الضوء على هذه الظاهرة السيئة ونفحضها عن طريق الندوات والمهرجانات ونحاربها بكل الوسائل ، ونبين خطرها على المجتمع والدولة ، ونجعلها ضمن أولويات العلماء والكتاب والمثقفين ، وكافة عناصر المجتمع المدني .