ثلاثة أيام في تاريخ الوطن (ح 1)

مدخل:

لقد كنت أعتقد، لكثرة ما كتب في المواقع، وما عرض على أمواج الأثير وشاشات القنوات حول ملحمة الاستقلال الوطني، أن الحديث عن الاستقلال وما يرمز إليه وما يمثل لدينا هو "حديث معاد" أو "فرض كفاية" يجزئ القائم به عن غيره.

ولكنني لما اطلعت على بعض ما كتب هذه السنة احتفاء بهذه المناسبة العظيمة، وتخليدا لها، وخاصة مقالات مثل: "أهذا أنت؟" و"لم نستقلَّ بعد يا سادتي" و"وطني ولد قبل ذكراكم التعيسة هذه" و"نوفمبر شهر الاستقلال والقتل" الخ؛ وجدتني مضطرا لتناول هذا الموضوع من زوايا أخرى.

وذلك بصفتي شاهد عيان من جهة، وأحد المهتمين بالشأن الوطني خلال معظم الفترات اللاحقة على الاستقلال من جهة ثانية. لعليَ أذكر ما يفيد المتلقي، أو أساهم في تقويم ما استعصى اعوجاجه على المثقِّف والمثقَّف. ومن ثم كان هذا الحديث..

اليوم لأول

28 نوفمبر 1960

بدأت تباشير هذا اليوم في خيمة غير عادية في عرف البدو يومئذ: جدرانها أسمنت، وسقفها وستائرها حرير أخضر وأصفر زاه؛ يرفع قواعدها، في واد غير ذي زرع رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا: المختار ولد داداه، سيد المختار انجاي، جاجا صنب جوم، سيدي محمد الديين، حمود ولد أحمدو، يوسف كويتا، أحمد سالم ولد هيبة.. وغيرهم. كانوا بسطاء جدا ومحدودي الثقافة والوعي والوسائل إذا ما قورنوا بنا اليوم، ولكنهم كانوا يعيشون في عصرهم ويمثلون طليعة مجتمعهم ومخلصين للقضية التي آمنوا بها.

ففي الدقائق الأولى من صباح ذلك اليوم الأغر، أعلن رئيسا وزراء موريتانيا (المختار ولد داداه) وفرنسا (ميشل دوبري) ميلاد الجمهورية الإسلامية الموريتانية، وذلك في حفل بهيج شهوده أوروبيون وأفارقة ما عدا ضيفين كريمين جسدا الحضور العربي والآسيوي هما محمد المصمودي وزير خارجية تونس (الدولة العربية الوحيدة التي اعترفت بموريتانيا) وآغا خان (موظف أممي) رئيس الطائفة الإسماعيلية من باكستان.

لم يكن طريق الدولة الفتية مفروشا بالورود، ولم تولد وفي فمها ملعقة من ذهب. بل واجهها أهلها (في الداخل والخارج) بالنكران والوأد! زعم بعضهم أنها لا تملك أسباب الحياة فدعوا للبقاء في كنف فرنسا. وقال آخرون - من نفس المنطلق- بالانضمام إلى الاتحاد المالي (اتحاد سنغال ومالي). وقال بعض آخر بالثورة تارة، دون امتلاك شروطها؛ وبالانضمام إلى المغرب تارة أخرى... ثم ما لبثوا أن أعلنوا عليها الحرب. وهذه بعض التفاصيل:

ـ بعض أركان حزب التجمع الحاكم وبعض الزعامات التقليدية عارضوا الاستقلال وتشبثوا بالبقاء تحت فرنسا.

ـ المعارضة بمختلف أطيافها: رابطة الشباب، حزب النهضة الوطنية، حزب الوئام، أمير الترارزه الذي لجأ إلى المغرب.. الخ. عارضوا الاستقلال وشككوا فيه.

ـ أما دعاة الانضمام إلى المغرب من الزعيم أحمدو ولد حرمة والدي ولد سيد بابه إلى بعض قادة حزب النهضة، فقد دعوا إلى حمل السلاح، وساندوا عملية "تگل" وقادوا ونظموا الأعمال المسلحة التي جرت يومئذ في انواكشوط والنعمة وغيرهما. ورغم ذلك كله، فقد رفعت الجمهورية الإسلامية الموريتانية التحدي وكسبت الرهان دولة مستقلة تجمع مكونات وأعراق أرض البيظان وتأخذ بيدها إلى النور والحضارة والرقي، وتبني عاصمة عصرية في الصحراء، وتحقق الأمن والأمان والتواصل في جميع ربوعها، وتنتمي إلى هيئة الأمم المتحدة، وتشترك في تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية، وتنضم - بعد الجفاء والإقصاء- إلى الجامعة العربية، وترسي قواعد حداثة كان من أهم خصائصها بعد مسيرة شاقة وطويلة:

* التقشف واحترام المال العام.

* الفصل بين السلطة والمال.

* تكريس السيادة الوطنية وحرية القرار.

* إرساء وتوطيد الدولة في مواجهة الكيانات التقليدية المفككة.

* وضع أسس اقتصاد وطني واعد قاعدته الانفصال عن قاطرة الاستعمار الجديد وإنشاء عملة وطنية وتأميم البنوك وصناعة استخراج المناجم، وربط شرق البلاد الذي كان معزولا بغربها بواسطة طريق الأمل، وبناء ميناء حديث على المحيط، وتنمية الصيد والزراعة وتربية المواشي.

* دعم المواد الأساسية (سونمكس) والطبية (فارماريم) واعتماد خطة تدخل لمكافحة آثار الجفاف، وتقسيم القطع الأرضية مجانا على أحياء الصفيح (المقاطعات: الأولى والخامسة والسادسة).

* تَبَنّي ميثاق وطني تحرري يوسع الديمقراطية، وينبذ استغلال الإنسان للإنسان. (أي محاربة الرق الذي كان منتشرا آنذاك).

ومن أبرز المحطات التي ميزت فصول مسار هذا اليوم لمن جهلها:

مخاض الاستقلال ونشوء الدولة

مما لا جدال فيه، أن إرهاصات هذا المخاض بدأت في شهر أكتوبر سنة 1945 يوم أصبحت موريتانيا إقليما من أقاليم ما وراء البحار تابعا للجمهورية الفرنسية، ويحق له بذلك، انتخاب ممثليه في الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) وفي المجلس الاستشاري الإقليمي. وذلك في أعقاب التحولات الكبرى التي شهدها العالم غداة نهاية الحرب العالمية الثانية. وما تلا ذلك محليا من صعود نجم الزعيم أحمدُ ولد حرمة ولد ببانة الذي أصبح أول مواطن يفوز في الانتخابات ليمثل موريتانيا في الجمعية الوطنية الفرنسية، في مواجهة إداري أجنبي هو إفون رازاك. الشيء الذي خلق جوا من الشعور الوطني ألهبته الإجراءات المناوئة لسيبة وعسف الاحتلال التي اتخذها ذلك الزعيم.

غير أن الزعيم أحمدُ ولد حرمة الذي أضعفه سقوط حلفائه في الجبهة الوطنية في فرنسا وهيمنة إداريي اليمين في المستعمرات، لم يستطع تجاوز الاعتبارات الضيقة والإكراهات القبلية والقيام بتوحيد الموريتانيين ضد الاحتلال. الشيء الذي أدى إلى عزلته وانفضاض الكثيرين من حوله وفي مقدمتهم جل عناصر "النخبة" الذين أسسوا حزب "الاتحاد التقدمي الموريتاني" المنافس المدعوم من طرف الأمراء والشيوخ والإدارة الاستعمارية سنة 1947، والذي نجح مرشحه (الزعيم سيد المختار ولد يحيى انجاي) في استحقاقي 1951 و1955 ووضع اللبنات الأولى لمستقبل موريتانيا السياسي.

وإذا كان مؤتمر ألاك في مايو سنة 1958 قد شكل أولى وأهم خطوة نحو استقلال وبناء موريتانيا الحديثة؛ وذلك بَرَصِّه صفوف الطيف الوطني المبعثر، بما فيه حزب الوئام الذي لجأ معظم زعمائه إلى المغرب، في حزب واحد جديد هو حزب التجمع الموريتاني الذي أصبح المحامي الذكي الشاب المختار ولد داداه أمينه العام، والذي قاد عملية الاستقلال برمتها؛ فإن خطوات في الاتجاه المعاكس مثل لجوء قادة الوئام وأمير الترارزة المحبوب إلى المغرب، ومعارك "تگل" وعودة قادة النهضة إلى نواكشوط ومعركة المطار التي صاحبت تلك العودة ونفيهم إلى تيشيت، والاغتيالات التي تلت، كادت تعصف بالمشروع الوليد.

ولكن سرعان ما انكشف الغيم وتغلبت الحكمة وسيطرت إرادة الحوار والوحدة، فعقدت الطاولة المستديرة بين كافة الأحزاب في مايو 1961 وتوجت باندماجها في حزب واحد هو حزب الشعب، وقيام حكومة وحدة وطنية. كما تم قبول عضوية موريتانيا في الأمم المتحدة، وبدأ مشروع استخراج الحديد من الشمال الموريتاني عمودا فقريا للدولة الجديدة.

بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو