صحيح أن الشعر بلسم جراح النفس و متنفسها عندما تحدق بها أكدار الحياة و يعجز الفعل و يتعذر من ناحية، و صحيح أن حضور بعض الشعراء الواقعيين في قيادة أو تحرير بلدانهم على وقع القوافي كان نعمة لبدانهم و محفزا على نضج شعوبهم و رهافة الحس كما هو الحال قديما مع
امرأ القيس الذي كان شاعرا أميرا و محاربا و حديثا مع سامي البارودي الذي قرأ دواوين الشعراء و حفظ شعرهم و هو في مقتبل عمرهُ، و قد أُعجب بالشعراء المُجدين مثل ابي تمام و البحتري و الشريف الرضي و المتنبي و غيرهم، و هو رائد مدرسة البعث و الإحياء في الشعر العربي الحديث، وهو أحد زعماء الثورة العربية وتولى وزارة الحربية ثم رئاسة الوزراء باختيار الثوار له و لقب برب السيف والقلم، و حال فيكتور هوغو الأديب و الشاعر و الروائي الفرنسي، الذي يُعتَبر من أبرز أدباء فرنسا في الحقبة الرومانسية و قد كان ناشطا اجتماعيا حيثَ دعا لالغاء حكم الإعدام و أيد لنظام الجمهوري في الحُكم، كما هو الحال مع الشاعر الكوبي الملهم و القائد الموجه بقوة الشعر الملتزم إلى المثل الوطنية العليا "مارتي خوزي" مؤسس حزب الثورة الكوبية و زعيمها الذي تبع خطاه الزعيم "فيدل كاسترو"، و حال غيرهم الكثير من أمثال ملك "كامبوديا" الراحل "نورودون سيهانوك"، السياسي المخضرم و الشاعر و الأديب و المصلح المحرر من اعتبارات الماضي التي منعت طويلا انطلاق بلده إلى رحاب الحداثة، و قد دخل موسوعة غينس للأرقام القياسية بصفته ملكاً شغل أكبر عدد من المناصب السياسية. فكل هؤلاء و غيرهم وظفوا قرائحهم الشاعرة و نتاجها الفياض لبناء أوطانهم و الرفع من شأنها على أرض الواقع و في كل منابر السياسة و الأدب.
كما هو صحيح أن المقاومة التي هي مقارعة المستعمر الدخيل و الغازي البغيض و التي أعقبها مد التحرر و انتزاع الاستقلال و تأسيس الدولة المركزية الحديثة، تعتبر بحق محورا جوهريا في هذا التأسيس و البناء و محفزا دائما على البذل و العطاء و صون حرية الوطن و تخليد المقاومة و أبطالها.
و لكن غير صحيح أن كتابة تاريخ المقاومة منوطة "بوحده" القلم و في أعناق فئة دون أخرى و بأدواتها و أساليبها. كلا فإن ما يراد له أن يكون كتابة تاريخ لم يعد منذ أمد الهم الأكبر للشعوب و دولها التي تحررت على إيقاعاتها لرسوخ هذا التاريخ الذي تؤمن بأن سياقه و أحداثه المجلجلة و المدوية في مسار الزمن و العالقة في الأذهان هي أمثل و أبهر أساليب الكتابة و أنصعها حرفا و أسهلها مقروئية حيث لامست و تمثلت الواقع اليومي و حراكه من خلال شعارات الاختزال الذي لا يهمل جزئية و لا وجها أو إسما أو مكانا ملحميا في تخليد صامت ناطق و مهيب مضيء و بمادية مرئية و ملموسة من خلال :
· النصب و الألواح التذكارية،
· و الساحات و المؤسسات العمومية،
· و تسمية الشوارع،
· و في ردهات الجامعات،
· و صفحات بحوثها و أطروحاتها و مذكراتها،
· و المعاهد و رسالاتها،
· و في كل مكان له فضل ثلاثية التجميع و الابداع و البناء،
· و في المدارس و مناهجها التعليمية برصانة و علمية و منهجية الكتابة التاريخية في اقتضاب لترسخ بسرعة أكثر و لألا تثقل على العقول الغضة التي تبحث بتلهف شديد عن خيوط المستقبل من خلال الحاضر الواعي بجسامة التحديات و تشعبها و القادر على رفعها و هو يستمد قوته من ميراث الماضي المبسط دون انتقاص و المنقى بلا عقد من شوائب حساسيات ولى زمانها و غابت عن الأذهان النزيهة أسبابها.
و إن لم تراجع النخب مواقفها من الشعر المظلوم بغثائية وغوغائية "المسرفين" فتعكف إلى الإقلال من فعل الإسراف فيه و تنقيته ديوانا و هوية و كينونة،
و إن لم ينقذ الجميع من مؤرخين و مهتمين و مستهلكين حياض "المقاومة" من الحساسيات المتعدية على حرمتها و الخادشة لقدسيتها ومن تيار المشككين و الكافرين بها و المعادين من عقد لحماتها من جهة، و من المتبجحين و المتغنيين بها في أسطورية طافحة داخل دوائر انتمائية شبه مغلقة و مساحات ضيقة و بتأويلات إستحوائية و إقصائية جارحة لشرائح عريضة من الشعب،
فإن النخب ستظل في ضعفها الذي لم تستطع أن تغطيه محاولات يائسة لتدفعها إلى الواجهة حتى توهم بمقدرتها على الاضطلاع بدورها الغائب، و إن شماعات "الشعر العديم الملحمية و "المقاومة المهدورة الدم" ستظل مرفوعة منطفئة الشعلة بفعل رياح الارتكاس الفكري و الثقافي و السياسي التي لا تكف عن العصف لحظة في خواء الواقع.
الولي ولد سيدي هيبه