إني أشعر بالعار لأني أنتمي إلى وطن يمتلك مخزونا استراتيجيا من التطبيل والتصفيق لا ينضب أبدا، إني أشعر بالعار لأني أنتمي إلى وطن يمتلك ثروة متجددة من النفاق والتملق لا تتناقص أبدا ، إني أشعر بالعار لأني في حيرة من أمري، ولا أعرف أي ولايات الوطن كانت أكثر تطبيلا ولا أعظم تزلفا.
إني أشعر بالعار لأن النخب والعامة في شرق هذه البلاد وغربها، في شمالها وجنوبها، أصبحت تذكرونا بقصة القرود الخمسة مع استثناءات قليلة كان من أبرزها سيدة أطار التي تحدثت بكل شجاعة أمام الرئيس، فشكلت بذلك الاستثناء.
يحكى فيما يحكى أن خمسة قرود تم إدخالهم في قفص علق في أعلاه عنقود موز، وكان قد وضع داخل القفص سلم يوصل إلى الموز المعلق. ولم يكد صاحب التجربة أن يغلق القفص على القرود الخمسة حتى صعد أحد القرود السلم، واتجه إلى عنقود الموز، وفي اللحظة التي لمس فيها القرد المتسلق الموز صب صاحب التجربة ماءً شديد البرودة على القرود الأربعة الذين لم يصعدوا السلم. بعد ذلك صعد قرد آخر، فصب صاحب التجربة ماء باردا على القرود الأربعة الذين لم يصعدوا، وهكذا استمر يفعل مع بقية القرود، حتى تكررت عملية صب الماء البارد عدة مرات، ولم يسلم منها أي من القرود الخمسة.
قررت القرود الخمسة بعد تكرر عملية صب الماء البارد أن تمنع أي قرد من الصعود، وأن تهاجمه من قبل أن يصل إلى الموز، وذلك خوفا من أن يصب عليها الماء البارد.
وفي مرحلة لاحقة توقف صاحب التجربة عن صب الماء البارد بعد أن تكفلت مجموعة القرود الخمسة بمنع أي قرد منها من التسلق، ولكن، وفي المقابل، فإن صاحب التجربة قرر أن يسحب أحد القرود الخمسة، وأن يبدله بقرد جديد لم يحضر لبداية هذه التجربة، ولا يعلم بأن صعود أحد القرود الخمسة سيترتب عليه تلقائيا صب الماء البارد على القرود الأربعة المتبقيين.
شارك القرد الجديد في التهجم على أي قرد يحاول التسلق، إنه لم يكن كبقية القرود، ولم يكن يعرف السبب الذي جعلهم يهجمون على أي قرد يتسلق، ولكنه مع ذلك ظل يشارك قرود القفص في عمليات الهجوم التي ينفذونها ضد أي قرد يحاول الوصول إلى الموز. بعد ذلك أبدل صاحب التجربة قردا ثانيا من القرود الذين عاصروا زمن صب الماء البارد بقرد جديد. ظل صاحب التجربة يبدل قردا من القرود الخمسة بقرد آخر حتى أصبحت مجموعة القرود داخل القفص تتكون من خمسة قرود لم يصب على أي واحد منهم ماءً باردا، ولكنهم مع ذلك ظلوا يسارعون في الهجوم على أي قرد يحاول أن يصل إلى الموز المعلق بأعلى القفص.
لقد أصبحت عملية الهجوم على أي قرد يحاول التسلق عملية تلقائية وآلية يشارك فيها الجميع، وذلك رغم أنه لا قرد من القرود المشاركة في تلك العملية كان يعرف السبب الذي يجعله يسارع إلى الهجوم على أي قرد يحاول أن يصعد إلى الموز المعلق.
لقد كانت مجموعة القرود الجديدة تقوم بأفعال لا تعرف لماذا تقوم بها، وكل ما في الأمر هو أن القرود الجدد كانوا قد شاهدوا أمة من القرود قد خلت كانت تقوم بذات الفعل.
لا يختلف حال القرود عن حالنا في هذه البلاد، فلقد ظهر لدينا جيل جديد من المصفقين والمطبلين يسارع دائما إلى التطبيل والتصفيق، ولكن لا أحد في هذا الجيل يعرف لماذا هو يصفق ويطبل، وكل ما في الأمر هو أن هذا الجيل الجديد من المصفقين والمطبلين كان قد شاهد أمة قد خلت من المطبلين والمصفقين كانت ـ وما تزال إلى الآن ـ تطلق المبادرات وتتنافس في إظهار الولاء للرؤساء وقد استفادت تلك الأمة من ذلك، وذلك لأنها كانت قد عاصرت رؤساء كانوا يجودون بالمال وبالوظائف لكل من يطبل ويصفق لهم. أما الرئيس الحالي فإنه يريد من الجميع أن يصفق له وأن يطبل، ولكنه معه ذلك، وعلى العكس ممن سبقه من الرؤساء، فقد ظل يبخل على المصفقين بالأموال وبالوظائف.
لقد فهم الرئيس الحالي سلوك المطبلين والمصفقين، ولقد علم بأنهم حتما سيصفقون له وسيطبلون، وسيتنافسون في ذلك، ما دام هو الرئيس. سيصفقون له وسيطبلون حتى وإن بخل عليهم بأقل شيء، كأن يبتسم لهم مثلا بشكل عابر أو يصافحهم بشكل خاطف، إذا ما اصطفوا له في يوم مشمس ـ ولساعات طوال ـ في انتظار تلك الابتسامة العابرة أو تلك المصافحة الخاطفة.
لقد فهم الرئيس الحالي سلوك المصفقين والمطبلين، تماما كما فهم صاحبنا في القصة السابقة سلوك القرود. وإذا كان صاحب القرود قد علم بأنه لم يعد بحاجة لصب الماء البارد حتى يجبر القرود على فعل معين، فإن الرئيس الحالي قد علم هو أيضا بأنه لم يعد بحاجة لصب المال والوظائف على رؤوس المصفقين والمطبلين والمتملقين، لإجبارهم على القيام بأفعال معينة.
لو لم نكن في هذه البلاد نتصرف كالقرود الخمسة، لكانت زيارة الرئيس لآدرار، ولكانت الذكرى السادسة والخمسين للاستقلال مناسبة لأن نطرح السؤال:
بماذا نحتفل؟
فهل نحتفل بذكرى الاستقلال لأن بلادنا وبعد ست وخمسين سنة من “الجهود الجبارة” قضت على الأمية أم أنها لا تزال تتصدر الدول العربية من حيث انتشار الأمية؟ وهل نحتفل بذكرى الاستقلال لأن بلادنا وبعد ست وخمسين سنة من “القفزات النوعية” وفي مختلف المجالات أصبحت نموذجا متميزا في إفريقيا أم أنها لا تزال هي الدولة الأولى إفريقياً من حيث تهميش الكفاءة وتفشي المحسوبية؟ وهل نحتفل بهذه الذكرى لأن بلادنا ورغم مرور ست وخمسين سنة من إعطاء “التوجيهات السامية” و”التعليمات النيرة” قد حققت شيئا مذكورا أم أنها لا تزال تصنف على أنها من البلدان الأكثر فقرا والأكثر فسادا في العالم؟ أم أنه علينا أن نحتفل بتعليمنا المنهار، وبعدالتنا العرجاء، وبديمقراطيتنا المتعثرة، وبخدماتنا الصحية المتردية، وبأفواج المرضى الذين يسافرون يوميا إلى بلدان أقل منا ثروات طلبا للعلاج والاستشفاء؟ أم أنه علينا أن نحتفل بنسبة البطالة المرتفعة، وبأفواج الشباب الذين يهاجرون يوميا إلى مشارق الأرض وإلى مغاربها طلبا للعيش الكريم؟
لا شيء في هذه البلاد يدعونا لأن نحتفل بذكرى الاستقلال، ومع ذلك فإننا سنحتفل، ولن نفقد الأمل في مستقبل مشرق يختلف عن حاضرنا البائس.
حفظ الله موريتانيا..