الصحافة الحرة في أميركا: قصة النهاية

عشت ضيفا دائما على مهنة الصحافة قارئا وباحثا وفي أحيان ممارسا. سمحت لي الظروف بأن أراقب أحوالها عن قرب، وكثيرا ما كنت في قلب أزماتها ومعاناتها وكذلك انتصاراتها. عاشرتها شبه حرة في مصر لفترة قصيرة كنت فيها تلميذ الثانوي، وعشنا معا أحرارا لسنوات قليلة في إيطاليا وكندا، وشهورا معدودة في تشيلي قبل أن يستولي الجنرال بينوشيه على السلطة، ولحقت بها في الأرجنتين لأقضي معها عامين قبل أن يصل الجنرال أونجانيا إلى الحكم.
أمضيت وقتا معتبرا، أقارن بين الحالات المختلفة لحرية الصحافة وأقيس مساحاتها مستخدما معيارين في القياس. هناك بالطبع نموذجان، نموذج الصين في السنوات التي أعقبت مباشرة استلام الثوار السلطة في بكين، وهي السنوات التي شهدت تجارب رهيبة في الإدارة الإعلامية للبلاد. كان من بين تجارب الحزب الشيوعي الصيني حملة «دع مئة زهرة تتفتح»، وهي التي انتهت بإيداع عشرات الألوف من الصحافيين في معسكرات التلقين والنقد الذاتي، وحملة «فلنتفوق على بريطانيا العظمى في إنتاج الصلب»، وكانت نتيجتها مجاعة وبوار الأراضي الزراعية واعتقال المشككين والمعتدلين، ثم حملة «الثورة الثقافية» وهذه أيضا تسببت في فصل مئات الصحافيين وأساتذة الجامعات والتشهير بالمثقفين. أما النموذج الآخر الذي استخدمته في قياس ممارسات الدول التي عشت فيها فكان النموذج الغربي، كما اختبرته قارئا وممارسا في الولايات المتحدة وكندا وإيطاليا.
أخشى أن يكون هذا النموذج الأخير في طريقه إلى الزوال ليحل محله شيء آخر. أتصور أن تطورين بالغي الأهمية يتشاركان الآن في صنع الشيء الأميركي الجديد الذي سوف يحمل اسم منظومة الصحافة والإعلام عموما. بدأ التطور الأول بإعلان رجل الأعمال دونالد ترامب نيته النزول إلى حلبة انتخابات الرئاسة الأميركية. عندها توجست الصحافة الأميركية شرا. يعرفه الصحافيون، يعرفون كراهيته لهم ولمهنتهم، فهو الذي كان يقول إن الصحافيين كسالى وتنقصهم الأمانة. يعرفون أن شركاته التي يمتلكها أقامت ضد صحافيين ومؤسسات صحافية 4000 قضية على امتداد ثلاثين عاما. رجل يتلذذ بتعذيب الصحافيين والإساءة لهم. وبالفعل، وقبل أن تصل الحملة الانتخابية إلى نهايتها، كان ترامب قد رفع قضية ضد مجموعة «ديلي بيست» يتهمها فيها بأنها شهرت به حين أعادت خلال الحملة نشر تصريح لإيفانا، الزوجة الأولى لترامب، كانت قد أدلت به في العام 1989 استخدمت فيه كلمة اغتصاب في وصف تصرفه معها أثناء خلاف عائلي وقع بينهما. عاد ترامب فرفع قضية أخرى على «واشنطن بوست» التي يكرهها كراهية قصوى متهما إياها بالتشهير لأنها نشرت أن كازينو قمار تاج محل الأشهر في مؤسسات الترفيه التي يملكها ترامب مهدد بإعلان الإفلاس. رفع قضية ثالثة ضد وكالة «اسوشيتيد برس» لأنها كتبت عن مشكلات إدارية داخل شركات ترامب، ثم هدد «نيويورك تايمز» برفع قضية إذا استمرت تنشر عن تخلّفه في سداد الضرائب المستحقة عليه ورفضه الإفصاح عن حالته المالية، ولأنها نشرت تحقيقا عن تحرشه بسيدتين شهدتا بذلك. يومها خرج محامي ترامب يهدد الصحيفة ويعلن أنه يتحداها أن تسترسل في النشر.
يهتم أساتذة الإعلام في الولايات المتحدة بالآثار التي سوف تنجم عن الأسلوب الإعلامي الذي أدار به ترامب حملته على الإعلام الأميركي بصفة عامة. هناك ما يشبه الإجماع على أن ترامب أضاف جرعة قوية من الكذب والأنباء الزائفة إلى مضمون الرسائل الإعلامية. الرجل يكذب باستمرار حتى صار الكذب القاعدة التي ينطلق منها الصحافيون الذين يتعاملون معه. هو يتهمهم بالكذب وهم يحتارون بين أنباء موثقة من مصادر يطمئنون إليها وبين أنباء زائفة يخترعها الرئيس المنتخب. اهتم الأساتذة أيضا بالتقلبات في التصريحات التي يدلي بها ترامب أيام كان مرشحا وأيام استعداده لتحسين صورته مع اقتراب دخوله البيت الأبيض. لم يفوتهم التأكيد على الآثار الوخيمة التي يمكن أن تنتج عن الخلط بين الخاص والعام في حملة ترامب، وهو ما سيحدث بالتأكيد بعد تسلمه مقاليد الحكم. يضربون المثال بالتحقيق الصحافي الذي قامت به صحافية في مجلة «فانيتي فير» ونشرته المجلة تحت عنوان «محل الشواء الذي يملكه ترامب قد يكون المطعم الأسوأ في أميركا». المقالة بالفعل تسيء إلى سمعة «أبراج ترامب» وهو الفندق الأشهر بين فنادق ترامب خاصة بعدما صار المفضل لدى السفارات الأجنبية لتقيم أعيادها الوطنية وحفلاتها وينزل فيه ضيوفها والزوار الكبار من المستثمرين والسياسيين الذين يطمحون في رضا الرئيس الجديد. هدد مساعدو ترامب بفرض عقوبات على المجلة، فأعادت رئيسة التحرير طباعتها وعلى الغلاف كتبت: «مجلة لا يريد ترامب أن تقرأوها». الجدير بالإشارة لأهميته الفائقة هو أن المجلة تلقت في ذات اليوم ستة عشر ألف اشتراك جديد. المعنى الذي وصل إلى إدارات مختلف المؤسسات الصحافية من هذه القصة هو أن خصومتها لرئيس الدولة سيكون مفيدا لها. وبالفعل فقد سبق أن استفادت صحيفة «نيويورك تايمز» عندما اختلفت معه فزاد عدد المشتركين فيها إلى ثلاثة ملايين. هذه الزيادات تعني أن نسبة مهتمة من قراء الصحف ومستهلكي الإعلام تشجع الصحف الغاضبة على انتقاد ترامب ومحاسبته.
التطور الثاني الذي سوف يؤثر حتما في تحديد مستقبل حرية الإعلام يتعلق بالحال السيئة التي تردى إليها الإعلام بشكل عام والصحف الورقية بشكل خاص. يصف بعض الخبراء الحال الراهنة في مسيرة الإعلام بحمام دم يذبح فيه الإعلام والإعلاميون ولا منقذ محتملا في الأجل المنظور. نظرة متشائمة ولكنها ليست بعيدة كثيرا عن الواقع. «الغارديان» البريطانية تفقد ثلاثين في المئة من محرريها و «هافينغتون بوست» ثمانية وثلاثين وعشرات المؤسسات الإعلامية الأخرى بنسب متفاوتة. الزميلة «السفير» اللبنانية تعتزم الإغلاق بعد أيام وستلحق بها زميلة أخرى. أخذ حمام الدم هذا أشكالا وتبريرات مختلفة منها إعادة الهيكلة واستيعاب ابتكارات جديدة وعمليات استحواذ والتحول إلى صيغ مناسبة بحسب تعبير المسؤولين عنها. هناك أسباب موضوعية لا شك فيها أهمها ارتفاع تكلفة الطباعة مقارنة بتكلفة أساليب بث أخرى، وانخفاض عائدات الإعلان، والفقر العلمي لكليات ومعاهد تعليم الإعلام، وتدهور مستوى المتخرجين، والضعف الشديد في اللغة، ناهيك عن أمور أخرى استجدت أو تفاقمت في السنوات الأخيرة. من هذه الأمور على سبيل المثال لا الحصر، التوجهات السياسية لحكام عديدين لا يثقون بالإعلام القائم في دولهم، وترامب خير دليل. هناك أيضا انحسار متصاعد لثقة القراء في صدقية المادة التي يقرأونها أو يسمعونها في وسائل الإعلام وهو ما يدفعهم غالبا إلى ابتكار إعلامهم الخاص بمساعدة الهواتف الذكية والآيباد وغيرهما.
لم تعد ظاهرة الكذب واختلاق أنباء زائفة من سمات إعلام دون آخر، بل نراها ونعاني منها في بلادنا كما يعاني منها الأميركيون والروس في بلادهم. صحيح أن الإعلام في أزمة خانقة ويتعرض لهجمة ضارية من جانب الحكومات في شتى الأقطار، ولكن تبقى الحقيقة قائمة، حسب رأي الخبير الإعلامي جيم روتنبرج، وهي أن هذا الاضطهاد للصحافة والصحافيين يجب أن يؤدي في النهاية إلى انتفاضة إعلامية يتحسن بها الأداء وتجدد الصحف نفسها وترتفع إلى مستوى التطورات التكنولوجية ويستعيد الصحافيون الالتزام بأخلاقيات المهنة. بالنسبة للإعلام الأميركي يأمل غوتنبرج في أن يتسبب عداء ترامب للإعلام إلى إنقاذه من بحر الدم الغارق فيه.
يتوقع إعلاميون وأكاديميون أميركيون أن يبدأ ترامب و «الحزب الجمهوري» بإعداد قانون جديد للإعلام وقوانين تتشدد في معاقبة الصحافيين الذين يتعرضون للشأن الخاص بقصد التشهير، وهو احتمال لو تحقق لأضر أبلغ الضرر بالعلاقة بين السلطة التنفيذية والإعلام، باعتبار أن ترامب وعائلته مطالبون بأن يعدلوا بين العام والخاص ولن يعدلوا، لا هم ولا الإعلاميون. هنا أيضا من يتوقع أن تلجأ إدارة ترامب إلى اتخاذ إجراءات استثنائية متذرعة بما ردده ترامب في خطاباته في الحملة الانتخابية عن ضرورة استعادة العظمة الأميركية، الأمر الذي يمكن أن يدفع الإدارة إلى اتهام صحافيين معارضين بالتجسس والانتماء لمنظمات معادية لأميركا وارتكاب الخيانة في حق الوطن.
لن تكون المعركة بين ترامب والإعلاميين بسيطة، فالنيات لدى الطرفين غير طيبة. يحذر خبير إعلامي من أنه لو نفذت إدارة ترامب تهديداتها ونياتها تجاه المؤسسات الإعلامية فلها أن تتوقع أن يرد الإعلام في اتجاهين: أولهما الدفع نحو اتهام ترامب بالخيانة العظمى لتواطئه مع روسيا، وثانيهما فضح الخلط المتعمد بين العام ممثلا في السياسة الخارجية والدفاعية، والخاص ممثلا في المشروعات الدولية الكبرى التي تقيمها أو تشارك فيها مؤسسات ترامب العاملة في مجال الإنشاء أو إعادة التعمير، وهو النشاط الذي تديره ابنته ومستشارته للشؤون السياسية والإعلامية السيدة إيفانكا، والتلميح هنا واضح ويشير إلى إعادة إعمار سوريا والعراق وليبيا ودول في شرق أوروبا.