* الموضوع في الأصل هو تحقيق لموقع العربي الجديد
يعيش الخمسيني الموريتاني أعلي ولد أميمو، طريح الفراش في حي شعبي بمدينة أكجوجت، شمال العاصمة الموريتانية نواكشوط، منذ 5 أعوام، بعد تعرضه لحادث عمل أدى إلى شلل نصفي حوّله من معيل أسرة إلى عالة عليها.
يتذكر ولد أميمو، العامل السابق في شركة نحاس موريتانيا MCM، بمرارة كبيرة، كيف تعاملت الشركة معه بعد الحادث، ويقول لـ"العربي الجديد": "تحملت كلفة العلاج والدواء في العاصمة السنغالية داكار التي ترددت إليها مرتين لعلاج الإصابة التي لحقت بنخاعي الشوكي وفقرات من الظهر".
قصة ولد أميمو تعد واحدة من عشرات القصص المماثلة التي وثّقها معد التحقيق، لعمال في شركة النحاس الموريتانية، التي تعمل في مدينة أكجوجت، عاصمة ولاية إينشيري (تقع في غرب موريتانيا)، شمال شرق العاصمة الموريتانية نواكشوط، من بينهم العامل أبوه ولد محمد خيري، الذي أصيب بحروق في جسده، بسبب مواد كيمائية خطرة، لم يكن يعرف طريقة التعامل الفني السليمة معها. ويرى خيري أن حاله أفضل من زميله أحمد ولد الناه الذي توفي مباشرة بعد أن سقطت عليه كميات من مسحوق السيانيد السام والمستخدم في أعمال التعدين.
كارثة بيئية
يحذر خبراء ومختصون في البيئة بموريتانيا، من استمرار وقائع ما يصفونه بالكارثة البيئية في ولاية إينشيري. ويعد تلوث الهواء في تلك الولاية، الهاجس الأكبر الذي يؤرق هؤلاء الخبراء وأبناء مدينة أكجوجت (عاصمة الولاية)، الذين لم يعد بمقدورهم التعايش مع روائح تزكم الأنوف خاصة في فصلي الشتاء والربيع وقت هبوب الرياح بكثرة، حاملة معها روائحَ فضلات التعدين، الملوثة بمادة السيانيد السامة، ما يسبب هجرة قسرية لأرياف "إينشيري".
ويلخص الخبير في البيئة إبراهيم ولد أحمد، خطورة ما يجري في إينشيري، قائلا لـ"العربي الجديد": "الروائح الكريهة على مدينة أكجوجت لا تتوقف في معظم فصول السنة، يشعر بها كل سكان المدينة وزوارها، وهي روائح مواد كيميائية أخطرها السيانيد والأسبستوس، والتي توجد في بحيرات مكونة من فضلات عملية التعدين، التي تنتشر غرب مدينة أكجوجت على مساحة ثلاثة كيلومترات في كيلومترين".
الغبار المشبع بألياف مادة الأسبستوس أو لميانت "Asbestos"، يشكل الخطر الثاني، بحسب الخبير ولد أحمد، إذ ينتشر في مدينة أكجوجت القريبة من منجم "قلب أم اقرين" غبار مشبع بمادة لميانت السامة التي يحذر الخبراء الدوليون من التعامل معها، إذ تسبب داء (الأسبستوز) وسرطان الرئة، خاصة إذا تعلّق الأمر بالأطفال الذين لم يكتسبوا مناعة كافية من تلك السموم.
ويحذر الخبير البيئي من تسرّب الفضلات المنجمية إلى البحيرات الجوفية في الولاية، قائلا، "شركتا "MCM" و"كينروس تازيازت" لم تقم بعمل حاجز بين سطح الأرض وبين الفضلات المنجيمة، بل تلقي الفضلات مباشرة على الأرض وهو ما شكل بحيرة واسعة من الفضلات قد تتسرب بمرور الوقت إلى المياه الجوفية النقية في بحيرة إينشيري التي تشكل احتياطا هاما من المياه في موريتانيا.
يطابق رأي الخبير ولد أحمد ما قاله الخبير البيئي محمد المامي، في تقييمه للمخاطر التي تواجه أهالي ولاية إينشيري، محذرا من تلوث البحيرات الجوفية في المنطقة إذا لم تتخذ الشركات التعدينية إجراءً احترازيا يحول بين الفضلات المنجمية وبين البحيرات الجوفية النقية.
ويشير المامي إلى تدمير البيئة النباتية والحيوانية في الولاية، إذ تم تقطيع مئات الأشجار قبل عمليات التنقيب المعدنية، ولم تنبت الأرض القريبة من منطقتي تازيازت وأكجوجت، منذ سنوات بسبب وجود مخلّفات المعدن في تلك المنطقة.
وقال الخبير البيئي لـ"العربي الجديد": "شاهد سكان أكجوجت آلاف الجيف من الطيور التي تسممت بعد شربها من بحيرات المعدن السامة، كما هاجرت الحيوانات البرية عن تلك المناطق بسبب تلويث الجو بالغبار المتطاير من مناجم الذهب والنحاس".
شركة النحاس: لم نسجل تجاوزا لمقاييس السلامة البيئية
خلال العام الماضي 2015، أنتجت شركة النحاس 45 ألف طن من النحاس، بينما تم إنتاج 64 ألف أونصة من الذهب، وتقدّر وزارة المعادن الموريتانية احتياطي موريتانيا بـ25 مليون أونصة من الذهب و28 مليون طن من النحاس. وحسب الدراسات التعدينية، فإن ولاية إينشيري تمتلك أكبراحتياطي للمعادن في موريتانيا.
وبدأت شركة النحاس الموريتانية عملها في العام 2005 وهي تشغل، حسب مسؤول علاقاتها الخارجية النور ولد امبيرك، 1500 عامل، نسبة 95% منهم موريتانيون والبقية أجانب.
وتعتبر الشركة أن عمالها يعيشون في ظروف جيدة، سواء تعلّق الأمر بالرواتب أو بالحقوق الأخرى، كالضمان الصحي والاجتماعي، وهو ما ينفيه الكثير من العاملين في الشركة الذين نظموا عدة إضرابات واحتجاجات، من أبرزها إضراب العام 2012، الذي راح ضحيته أحد العمال يدعى "المشظوفي".
وتنشط شركة نحاس موريتانيا MCM في استخراج النحاس من مناطق في ولاية إنشيري، وراجعت موريتانيا في العام 2009 اتفاقيتها مع الشركة، إذ رفعت موريتانيا حصتها إلى 4% بدلاً من 3% من مبيعات النحاس، ومنحت الاتفاقية للشركة الحق، وحدها، في تحديد منسوب المياه الذي سيتم استخدامه من بحيرة بنشاب التي تزود المدينة بمياه الشرب والآجال التي سيتم فيها استغلال أي بحيرات أخرى، كما أعفتها من المسؤولية عن أي "أخطار بيئية ناتجة عن الأعمال السابقة".
وتنفي الشركة، على لسان مسؤول العلاقات العامة النور امبيريك، كل الاتهامات السابقة قائلا لـ"العربي الجديد": منذ أنشئت الشركة في العام 2005، قمنا بدراسة بيئية شاملة في مدينة أكجوجت، خصوصا وفي ولاية إينشيري عموما، وتم اتخاذ كل الإجراءات الضرورية لنظافة البيئة ومحيط مدينة أكجوجت، كما أن الشركة نصبت أكثر من 30 محطة مختصة بمراقبة الهواء تقوم بإعداد تقارير موسمية على مستوى الشركة، ولم تسجل إطلاقا حالة تجاوز للمقاييس الدولية في مجال السلامة البيئية، حسب تعبيره.
نشطاء يحذرون من تزايد تدهور البيئة
يحذر الناشط الموريتاني أحمد جدو، من تدهور الوضع البيئي في المنطقة التي تحتوي على المناجم بولاية إينشيري، قائلا في مجموعة تدوينات نشرت في مدونة "أكجوجت"، "تم الكشف عن إصابات بأمراض وسرطانات جديدة في المنطقة بين العمال والسكان المحليين، لم تكن تلك الأنواع من الأمراض معروفة قبل وجود شركات التعدين، بينما لوحظ أيضا نفوق لعدد كبير من المواشي".
بسبب الحالات السابقة، أقام أحمد ولد محمد الأمين، المحامي والناشط في مجال محاربة تدمير الشركات الأجنبية لبيئة موريتانيا، دعوى أمام القضاء الموريتاني، قائلا "اتصلت بي مجموعة من النسوة والأسر تعاني من الإجهاض وموت المواليد المبكر إضافة إلى أن للشلل نصيبه الأوفر بين السكان، فيما انتشر الموت المفاجئ بين الصبية والشباب والشيوخ، وهو ما أكده عدد من أطباء الولاية، الذين يشتكون من تجاهل وزارة الصحة الموريتانية للموضوع، كما تم توثيق حالات تسمِّم بسبب الروائح الكريهة التي تصدر من الشركة، وحالات التسمم هذه أدت إلى نفوق عشرات رؤوس الماشية من الإبل بعد أن اقتربت من أحواض التعدين".
بحسب تقرير أعده الخبير الفلاحي محمد الأمين ولد أحمد، بتكليف من محكمة الاستئناف بنواكشوط، حول مخاطر أعمال شركة النحاس بأكجوجت، فإن مادة السيانيد تم تخزينها بطريقة خاطئة في أكياس داخل حاويات، موضوعة داخل سياج، غير كاف للوقاية من مخاطر هذه المادة التي تفتقر إلى الرقابة الميدانية.
وقال التقرير إن إدعاء الشركة أنها تمتلك مخططا بيئيا غير صحيح، مؤكدا أن وزارة البيئة ومن خلال تقرير رسمي أكدت "أن شركة MCM لا تمتلك أي مخطط بيئي".
وأكد التقرير أن مخلّفات الشركة من المياه بلغت يوميا ستة آلاف متر مكعب، وهي مخلفات غسيل المعادن إثر خلطها بمادة "السيانيد" وغيرها من المواد السامة، مؤكداً أن هذه المخلفات خطرة، وأن الشركة لم تحدد كمية السيانيد التي تتضمنها النفايات، قائلة إنها تحوَّل إلى أحواض لها أغشية غير قابلة لـ"النفاذية". لكن التقرير رأى أن هذه الأغشية معرضة للتحلل، وحينها سيترسب "السيانيد"، قائلا إن عمره الافتراضي 5 قرون، وأن أي شجرة في هذه البقعة من هذه الأرض ستكون مسممة وقاتلة لأي كائن حي يأكل منها على الفور.
وذكر التقرير المنشور سابقا، في صحف محلية، أن السيانيد يتبخر من الأحواض تحت تأثير حرارة الشمس، وأن نسبة من السيانيد السام تبقى عالقة في الماء المتبخر الذي يتنقل بكل بساطة عبر الهواء إلى المناطق المجاورة حسب قربها وحسب قوة الرياح وحسب اتجاهها، إضافة إلى الأمطار، والتناسب طردي فكلما زاد النشاط الصناعي كلما زاد الخطر.
وبدورها، أكدت الكونفدرالية العامة لعمال موريتانيا (CGTM)، ظهور بعض الأمراض التي يسببها الرصاص والزئبق، مثل: "التسمم بالرصاص، والتهاب الدماغ الحاد، والشلل الرعاش، وخلل المخيخ، والتهاب الفم، والإسهال، والمغص، والتهاب الكلى الآزوتيمي لدى بعض عمال شركة KINROSS "تازيازت"، وذلك نتيجة لعدم اهتمام الشركة بإجراءت الأمان.