لقد شدتني المُلاسنات الكلامية التي وقعت مؤخرا بين بعض من قادة الرأي في المملكة المغربية الشقيقة وبين بعض من ساستنا "الميامين" إلى التأمل في مسار الدولة الموريتانية العتيدة الموروثة عن الاستعمار الفرنسي الذي حكمنا أزيد من ستين سنة خارج سياق سايس بيكو. إن المتتبع لمسارات مشروع الدولة الموريتانية هبوطا وصعودا والمستوى النفسي والخلقي للقائمين عليها يجد أنه وإن كان هنالك تفاوت بيًن بين هؤلاء بسبب عوامل التعليم والتجربة ونوعية الطبقة المحيطة، إلا أن الثقة في (الكناش) أي السجل الموروث عن حكام المستعمر الفرنسي والاسترشاد بمعطيات هذا السجل وتوجيهاته هو القاسم المشترك بين هؤلاء جميعا بغض النظر عن الفارق الزمني والفارق التعليمي وحتى نوعية الشعارات المرفوعة من قبلهم أحيانا. إن السمة الغالبة على هؤلاء جميعا هي سمة حراس المخزن والعين المتتبعة للجميع والأذن التي تتنصت على الجميع بأسلوب بدوي وبدائي مقيت يستمد خبرته وتجربته من موروث شعبي شائع هو موروث "آسواقه" أي التشويه بأسلوب التلفيق والكذب والنميمة والسعي للتنافر والتباغض بين المنقول له والمنقول عنه. لقد ظلت هذه الموجة من المعتاشين على فضلات المخزن تعبث بمشروع الدولة الموريتانية وتشن حربا لا هوادة فيها على نخبها وتبعدها عن أطرها الأكفاء الذين رفضوا طيلة هذا المسار استمراء النميمة وثقافة الدونية والابتذال كأسلوب لولوج المناصب الإدارية والتوظيف العمومي. لقد ظلت هذه الفيروسات تتكاثر بوصفها الوسيلة شبه الوحيدة للولوج لواجهة الشأن العام، إلا أن السلبيات التي ترتبت على هذا الواقع كبًلت مشروع الدولة الموريتانية واحرفته عن مسارات البناء والتنمية وخلقت واقعا بنيويا معقدا على جميع المستويات ظلت الدولة تترنح فيه إلى يومنا هذا. ولم يقف هذا النوع من المسارات المشوهة عند هذا الحد، فحين اتجهت البلاد إلى نظام التعددية السياسية بعد عقود من نظام الحزب الواحد ومن حكم اللجان العسكرية اتجهت هذه الفيروسات إلى العبث بالمولود الجديد فأصابته بالحصباء والشلل وسوء التغذية وتركته يتوسل داخلاً هي متحكمة في مساراته عاجزاً بحكم أوبئتها المدمرة لنسيجه الاجتماعي والاقتصادي، وخارجاً بعض أطرافه تسعى دوماً إلى الهيمنة والتحكم وآخر ما يهمٌه هو أن يخرج بلد من بلدان العالم الثالث من دائرة التبعية والتخلف. لقد اتجهت هذه الفيروسات البشرية إلى حقل العمل السياسي والجمعوي فأصابت الساحة السياسية بالتخمة وأصابت الرؤية التنمية بالعمى المطبق أحيانا والعمى النصفي أحايين كثيرة، وفي حربها الضروس على المجتمع ونخبه أغرقت هذه الفيروسات الوبائية المتلونة دائما بلون من هم في سدة السلطة واجهات البلد الإدارية ومصالح الناس العمومية بعصابات لا تحسن سوى فن التسلق والتزلف والرقص على شتى الحبال والتآمر والكيدية بأسلوب بدائي غاية في الانحطاط والتخلف. وفي إطار حربها على المجتمع وتكبيلها لمشروع الدولة وحيلولتها دون انطلاقته نحو فضائه الإقليمي والدولي بشكل سلس تحكم خلافاته لغة دبلوماسية ناعمة ومريحة ظلت هذه الفيروسات متأهبة دوما لتعميق الجراح ونكئ المندمل منها جاعلة من ذلك مشروعا للتعمية عن إفلاسها وبؤس مشروعها المجتمعي. ومن هذا المنطلق فأنني أتوجه إلى نخبنا العسكرية والمدنية ممن ظلوا يمانعون هذا المشروع التدميري وعلى رأسهم فخامة الرئيس السيد محمد ولد عبد العزيز الذي سعى منذ وصوله إلى سدة الحكم إلى النهوض بالبلاد على كافة المستويات، للتوجه إلى النقاش بروية وتأمل لتصحيح هذا المسار المختل بنيويا منذ نشأت الدولة بفعل هذه الممارسات الشاذة وغير المسؤولة وذلك من أجل وضع برنامج مجتمعي يشكل قطيعة بين المجتمع وهذه الممارسات الشاذة وغير المسؤولة يعتمد ثقافة مدنية تعطي للأخلاق والكفاءة حيزا واسعا من ريادة الدولة والمجتمع وتشكل قطيعة تامة مع ثقافة النميمة (آسواقه).