من فواجع هذا الزمن العربي الذي تعيشه الأمة حدوث المفارقة الموجعة التالية: ففي الوقت الذي يزداد فيه تضامن المجتمعات غير العربية مع القضية الفلسطينية يتراجع التضامن العربي الرسمي والشعبي مع الشعب العربي الفلسطيني ومع قضية العرب الأولى بالنسبة لفلسطين المحتلة من قبل الصهيوني الفاشي المستعمر.
في مجتمعات الغرب تتضاعف أعداد الأكاديميين الجامعيين والحقوقيين وأصحاب الضمائر الإنسانيين المقاطعة للأنشطة الصهيونية التي تدعوهم لحضورها سلطات الاحتلال والمنددة بالممارسات الثأرية الهمجية الإرهابية التي تمارسها يوميا تلك السلطات تجاه شعب فلسطين. وبين الحين والآخر نسمع صوتا إنسانيا شجاعا، مثل صوت وزيرة خارجية السويد الجريئة الملتزمة الغاضبة، وهو يعرّي ادّعاءات الآلة الإعلامية الصهيونية ومناصريها بشأن لعب الصهاينة المستوطنين دور الضحية المسكينة بينما هم في الواقع من سارقي الأرض وما فوقها وما تحتها، ومزوّري تاريخ فلسطين العربية وشعبها العربي.
وفي أمريكا الجنوبية يقف الزعيم السياسي تلو الزعيم وهو يهاجم ما يفعله التمييز العنصري الديني الثقافي الصهيوني بأبسط حقوق معيشة الإنسان الفلسطيني اليومية، فلا يخاف من غضب اللّوبي الصهيوني الأمريكي، ولا من سلطة مؤسسات المال العولمية المنحازة دوما للجلاّد القاتل السجان المُعذِّب المدّعي زورا وبهتانا بالدفاع عن دولة أقيمت على أرض مغتصبة وفوق أشلاء جثث وأنهار من الدّماء. انظر إلى الفرق بين تلك المشاهد الملتزمة بقيم الإنسانية، وفي مقدّمتها قيمة العدالة الحقوقية والأخلاقية، وبين المشاهد المخجلة في أرض العرب.
ويذهب بعض العرب لحضور اجتماعات مؤسسة إيباك في واشنطن التي تدعم من دون أدنى تحفّظ كل الممارسات الإرهابية البربرية الصهيونية بحق شعب فلسطين، ويجري تنسيق يومي بين أجهزة مخابرات هذه الدولة العربية أو تلك مع أجهزة الاستخبارات الاغتيالية من مثل "الموساد"، فيما تغمض بعض الحكومات أعينها عن رؤية البضائع الصهيونية وهي تعرض في الأسواق ليذهب ريع أرباحها لبناء المزيد من آلات ومعدّات الماكنة العسكرية الهائلة الحامية للوجود الاستيطاني الصهيوني في فلسطين المحتلة. في مجتمعاتها العربية يخيّم السّكون الشعبي العاجز اللامبالي الذي كان فيما مضى يخرج الملايين الغاضبين المساندين الملتزمين بقضية أمتهم الأولى بينما يعجز الآن عن تجييش بضعة آلاف في هذه العاصمة العربية أو تلك، وأخيرا في هذه المجتمعات لا تخجل أقلام ولا حناجر أن تعتبر قضية فلسطين قضية تراثية تخطّاها الزمن وعلت فوقها عبثية التناحر الطائفي السُّني - الشيعي المجنون المبتذل.
الآن، إذ يحتفل وطن العرب وأجزاء من مجتمعات العالم بالتضامن مع الشعب العربي الفلسطيني تبدو هذه المفارقة ما بين المشاهد العربية والمشاهد غير العربية أكثر إيلاما وفجيعة بسبب تصادف احتفالات التضامن العربي والدولي مع توقّد النضال الشبابي الفلسطيني، غير العابئ بالموت وفقدان متاع الدنيا الزائل الحقير عندما يتزامن مع العيش الذليل والكرامة المهانة، توقّد نضاله ضد التوحش الحيواني المجرم الذي تمارسه الصهيونية ضده وضد شعبه.
ما المطلوب كرد ضد العدو الدراكولي مصاص الدماء، وكمساندة للشقيق المنهك المثخن بالجراح؟
دعنا من الأنظمة العربية، فهي لن تغلق سفارة، ولن تستدعي سفيرا كاحتجاج، ولن توقف أي شكل من أشكال التطبيع، ولن تتوقف عن استجداء الوساطة الصهيونية لإقناع أمريكا بالتفضّل بتوزيع الابتسامات أو بيع السلاح أو السكوت عن انتهاكات حقوق العباد، ولن تسحب مبادرة السلام العربية الشهيرة المحتضرة ، ولن تجرؤ لعقد اجتماع قمة لقول "لا" واحدة لأي عربدة أو جريمة أو اغتصاب إضافي للأرض والعرض، لكن ماذا عن الشعب العربي؟
ألا يستطيع أن يتظاهر ويطالب حكوماته بتغيير نهج تعاملها الحالي، غير القومي، مع العدو الصهيوني؟ ألا يستطيع، في أقل الأحوال، أن يشعر إخوانه في فلسطين في شتى المناسبات بأنه يساند نضالاتهم ويخاصم عدوهم ولا يتنازل عن عروبة فلسطين وعن رجوعها إلى أحضان أمتها العربية؟ ألا يستطيع أن يساعد ماليا حتى لا تنجح القوى الصهيونية في امتلاك الأراضي الفلسطينية وتهجير سكان فلسطين بسبب العوز والجوع وقلة الحيلة؟
قوى الشعب العربي السياسية تستطيع أن تفعل الكثير ولكنها لا تفعل، بل تردّد مقولة أتباع موسى لنبيّهم:"اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون" .
إن جزءا من أهداف الفوضى التي فرضت على الوطن العربي وأمته هو أن ينشغل الناس عن قضية فلسطين وعن الخطر الصهيوني وأن يعطى الوجود الصهيوني مدة راحة ليرسخ وجوده أكثر فأكثر.
لكن الحقيقة التي يجب أن نعيها أن الوقوف في وجه أطماع الصهيونية لا ينفصل عن نضال الأمة من أجل استقلالها وتحرّرها ونهوضها الحضاري وخروجها من عار تخلُّفها التاريخي.
(عن صحيفة الخليج الإماراتية ـ