شكل تراجع الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز عن تنظيم استفتاء شعبي لتمرير التعديلات الدستورية، شكل مفاجأة كبيرة، لمناصري النظام، وهدية مجانية لمعارضيه، الذين
اعتبروا الخطوة جاءت بسبب ضغطهم، مؤكدين أنهم أسقطوا الاستفتاء حتى قبل أن يبدأ، وشكلت المبررات التي قدمها النظام للتراجع عن الاستفتاء عذرا أقبح من الذنب كما يقول البعض.
فإذا كانت ميزانية الدولة لديها فائض كبير من المليارات، والوضع الاقتصادي في أحسن حالاته، فما المانع من إنفاق أربع مليارات في أخذ رأي الشعب في قضايا جوهرية تمس حياته، وهوية بلده، ورموزه، ومؤسساته الدستورية (العلم، النشيد، مجلس الشيوخ..) ثم إن هذه المليارات في النهاية لن تذهب إلى دولة خارجية، بل سيتم ضخها في البلد، وستحرك الدورة الاقتصادية، ويستفيد منها الجميع، وتحدث حراكا يعول عليه المواطنون البسطاء، الذين تشكل الاستحقاقات الانتخابية، والمواسم السياسية فرصتهم الوحيدة للاستفادة من فتاة ما تجود به جيوب المترفين.
وعلى الفور تداعت إلى الأذهان أسئلة حائرة عن الأسباب الحقيقة الكامنة وراء تراجع الرئيس عن الاستفتاء الشعبي، والتوجه لمؤتمر برلماني لتعديل الدستور، وحسب مصادر مطلعة فإن النظام حصلت لديه قناعة راسخة، بفعل مؤشرات، وتقارير متعددة بأن الاستفتاء لن يكون مضمون النتائج، سواء لجهة نسبة المشاركة فيه، أو لجهة التصويت بـ”بنعم” عليه، وهو الأهم.
فالكتل الانتخابية في البد توجد أساسا في ثلاث مناطق تشكل الخزان الانتخابي الأبرز، وبدون حسم ولائها لن ينجح الاستفتاء، وهذه المناطق هي: انواكشوط، والشرق (الحوضين، ولعصابه) واتراره، فالعاصمة انواكشوط توجد بها مجموعات شبابية نشطة معارضة، وتنشط فيها أحزاب المعارضة بشكل كبير، باعتبارها منطقة حضرية، يسهل تأطيرها من المعارضين، في حين لا يمكن للنظام إحكام قبضته على العاصمة، لعدم وجود شيوخ قبائل، وأطر، ووجهاء يتحكمون في الناس، كما هو الحال في ولايات الداخل، لذلك فإن هاجس تصويت العاصمة ضد التعديلات الدستورية يبقى حاضرا بقوة.
أما ولايات الشرق فغير متحمسة أصلا للمشاركة في التصويت على الدستور، لأن ما يهم الناخبين فيها هو الانتخابات البلدية، والبرلمانية، حيث يكون التنافس محليا، ويلقي الكل بثقله لإنجاح مرشحه، وستكون نسبة المشاركة في التصويت على الاستفتاء منخفضة جدا في الشرق، وعندما تنخفض نسبة التصويت لن تكون نتيجته ذا أهمية بغض النظر عن طبيعتها.
أما ولاية اترارزه فتبدو شبه محسومة ضد تعديل الدستور، لاعتبارات جهوية، وقبلية، وثقافية، وبدا ذلك واضحا من خلال الجدل الدائر حول تغيير النشيد، والعلم، حيث تعتبر شرائح واسعة من اترارزه هذه الرموز من إنتاجهم، ولا يقبلون بتغييرها لصالح مقترحات قادمة من جهات، وقبائل، ومجموعات أخرى، هذه هي الحقيقة المرة التي لا يريد أحد أن يفصح عنها علنا.
كل هذه الأسباب مجتمعة جعلت رئيس الجمهورية يعيد حساباته، ويقيم خياراته، في ميزان الربح، والخسارة من الناحية السياسية، قبل المادية، وقرر التخلي عن الاستفتاء الشعبي، واعتماد خيار البرلمان، باعتباره أقل تكلفة، وفرص حسمه لصالح النظام أكبر بكثير من الاستفتاء، ولا يعني ذلك وجود هامش مخاطرة، لكنه يبقى أقل بأضعاف من خيار الاستفتاء الشعبي.