استعرض «أناتول ليفن» وهو أستاذ في جامعة جورج تاون في قطر، وعضو في مؤسسة أمريكا الجديدة في واشنطن، استعرض في مقال نشرته مجلة «ذا ناشونال إنترست» الأمريكية أصداء المزاعم الاستخباراتية ,
الأخيرة التي تحدثت عن امتلاك روسيا مواد فاضحة بحق الرئيس الأمريكي المنتخب «دونالد ترامب»، وما تعكسه الواقعة من خلفيات تتعلق بالتدخل الأمريكي، والغربي بشكل عام في سياسات الدول الأخرى. الكاتب استهل المقال بعرض لإحدى المقولات للكاتب الأمريكي «رينولد نيبور»، التي قال فيها: «واحد من أكثر الجوانب المثيرة للشفقة في تاريخ البشرية هو أن كل حضارة تعبر عن نفسها بغطرسة أكثر، تضاعف قيمها الجزئية والشاملة بصورة أكثر إقناعًا، وتدعي الخلود لوجودها المحدود في نفس اللحظة التي يكون فيها التسوس الذي يؤدي إلى الموت، قد بدأ بالفعل». معلومات غير موثقة أضاف الكاتب أنه إذا كانت المزاعم حول امتلاك روسيا «شريط جنسي» للرئيس الأمريكي المنتخب ستثبت صحتها، فإنه سيتعين عليه بالطبع الاستقالة، أو أن يتم خلعه من منصبه. وبصرف النظر عن القضايا الأخلاقية المعنية، لا ينبغي أن يستخدم رجل مذنب بهذا التهور المروع، والغباء، واللامسؤولية بوابًا أو عامل نظافة من قبل أي حكومة في العالم. ولكن على الرغم من أن هذه الادعاءات قد ذاعت من وراء الكواليس منذ أن ظهر «ترامب» لأول مرة منافسًا قويًّا للفوز بترشيح الحزب الجمهوري، إلا أنه لم يتم تقديم دليل واحد لإثبات صحتها. كل ما لدينا هو كلمة من ضابط استخبارات بريطاني سابق مختفٍ لديه معلومات من مصادر استخباراتية روسية لم يسمها، ومدعوم من قبل مصادر في الاستخبارات الأمريكية لم يكشف عن اسمها، ترجح أن هذه المعلومات جديرة بالثقة. وقال الكاتب إنه في أي سياق آخر، سيتم رفض مثل هذه القصة جملة وتفصيلًا باعتبارها مؤامرة من قبل أقسام الاستخبارات الغربية المصممة على تدمير أي محاولة للمصالحة مع روسيا. وبالفعل، فإن عدم وجود أي أدلة فعلية للقصة كان السبب الذي دفع وسائل الإعلام لعدم نشرها، حتى قام موقع «BuzzFeed» بنشرها قبل أيام قليلة. وتابع الكاتب بقوله: «بحكم طبيعتها، هذه القصة لا يمكن إثباتها، أو دحضها إلا من قبل أجهزة الاستخبارات الروسية، التي لا تستطيع القيام بذلك؛ لأنه إذا كان لديهم مثل هذا الشريط، فإنهم لن يتمكنوا من الكشف عنه دون أن يتسبب كشف المعلومات في تدمير رئيس الولايات المتحدة، الذين يأملون في التعاون معه، وإحداث عاهة مستديمة للعلاقات الأمريكية الروسية، وعندما يقولون إنهم ليس لديهم هذا الشريط، فلن يصدقهم تلقائيًّا جميع هؤلاء الناس في الغرب، الذين يفكرون في الأسوأ من ترامب، وروسيا». لذا فإن هذه القصة من شبه المؤكد ألا تنتهي بطريقة، أو بأخرى. وسوف تظل كامنة ببساطة لسنوات، وتضعف إدارة «ترامب»، وتمنع محاولات تحسين العلاقات مع روسيا. لكن الضرر سيكون قد وقع بالفعل، والديمقراطية الأمريكية تسممت أكثر، كما كانت على مر السنين نظريات المؤامرة اللامسؤولة، وغير المثبتة حول الرؤساء الديمقراطيين، التي تم ترويجها بدأب من قبل المتطرفين الجمهوريين. خطاب شعبوي وقال الكاتب: «ما تزال مخاطر هذا على النظام السياسي في الولايات المتحدة حيةً، وخاصةً بالنسبة لي بسبب عملي في باكستان، وبلدان أخرى، حيث أُفسد الفكر الوطني برمته، والنقاش العام بنظريات المؤامرة التي تعمل بديلًا للتفكير الجدي حول الإصلاحات السياسية المؤلمة، ولكنها ضرورية». وبهذه الطريقة، تخدم نظريات المؤامرة هذه أيضًا مصالح النخب السياسية، والاقتصادية، التي تمتلك أقوى مصلحة في التأكد من أن هذه الإصلاحات لم تتم. والنتيجة هي المساعدة في التمسك بنظام للحكم حيث تناط جميع السلطات إلى عدد قليل من الأشخاص من الطبقة المسيطرة. بينما تقاوم هذه الطبقة بعناد أي تغيير جدي مع خطاب شعبوي فارغ. قد يكون هذا الاحتمال مرعب بالنسبة للولايات المتحدة -وفقًا للكاتب- إذا استمرت الاتجاهات الحالية، قوة عظمى عالمية مع سياسة داخلية كما في الفلبين، أو الأرجنتين. كجزء من النضال ضد مثل هذا المستقبل، ينبغي لجميع الأعضاء المسؤولين في النظام السياسي في الولايات المتحدة، الوصول إلى نوع من الاتفاق الثقافي والأخلاقي؛ لتجنب قصص لا أساس لها من هذا النوع، إلا إذا ثبتت فعلًا. وثمة جانب آخر خطير من هذه النظم السياسية هي أنها معرضة بشكل كبير للتلاعب من الخارج. الكاتب ذكر: «هذا يقودني إلى المزاعم الرئيسية الأخرى ضد روسيا، ويقصد بها هنا المساعدة في تمويل حملة ترامب، والقرصنة الأهم لرسائل البريد الإلكتروني للحزب الديمقراطي. يبدو أن هذا الاتهام الأخير لديه دليل حقيقي وراءه. لم ينكر أي أحد المعلومات حول هيلاري كلينتون. وإذا كان صحافي أمريكي قد كشف هذه المعلومات، فقد كان سينظر إليه باعتباره يقوم بعمله لإعطاء الناخبين المعلومات، الذين لديهم الحق في معرفتها». وأشار الكاتب إلى أننا بحاجة إلى أن نتذكر أنه إذا كانت الحكومة الروسية في الواقع قد شاركت في هذه المحاولات للتأثير في الانتخابات الأمريكية، فإنها كانت بعد كل شيء تقلد المحاولات الأمريكية المتكررة، والمنهجية للتأثير في الانتخابات، وتقويض الحكومات ليس فقط في الاتحاد السوفيتي السابق، ولكن في أجزاء أخرى كثيرة من العالم. شرعية الدول بحسب الكاتب، فإن القضية تذهب إلى قلب قضية قديمة وأساسية في العلاقات الدولية: شرعية، أو عدم شرعية مجموعة من أشكال الدولة المختلفة في المجتمع الدولي. هذه المسألة ذات أهمية حاسمة لمستقبل علاقات الولايات المتحدة مع مجموعة من الدول في جميع أنحاء العالم، وعلى رأسها الصين. المؤرخ البريطاني الشهير «إيلي كيدوري» كان قد وجه الانتباه في أحد أعماله حول القومية إلى الابتكار المرعب للثورة الفرنسية، الذي يشير إلى أنه ليس هناك سوى الدولة الجمهورية، أو الدولة «الوطنية» التي تتمتع بالشرعية الحقيقية، وليس فقط داخليًّا، ولكن على المسرح العالمي. جميع الأشكال الأخرى يمكن أن تتقوض شرعيًّا، ويتم تدميرها من قبل الدول الجمهورية. المعاهدات بين الدول الجمهورية، وغير الجمهورية ليست ملزمة تمامًا. يستدعي هذا النهج موقف كلا الجانبين في الصراع بين الكاثوليك، والبروتستانت حول الإصلاح، وسلام ويستفاليا. في النسخة الكاثوليكية، فإن «الاتفاقات مع الزنادقة ليست ملزمة أخلاقيًّا». كما أشار «كيدوري»، فقد تحدى هذا النهج نظام الدولة الأوروبية السابقة (سواء في العصور الوسطى والقرن الـ18)، الذي كانت القارة خلاله تتألف من مجموعة واسعة من أشكال الدول المختلفة، بما في ذلك الأنظمة الملكية الدستورية، الحكومة الاتحادية والملكيات شبه الممالك المطلقة، الجمهوريات الاتحادية، والجمهوريات الأرستقراطية. كان الاتحاد السوفيتي، والصين الشيوعية الورثة المباشرين للثورة الفرنسية في هذا الصدد. الأحزاب الشيوعية الحاكمة في هذه الدول تمسكت بمبدأ أن الدول الاشتراكية فقط هي التي تحظى بنظام شرعي، وأن كل الآخرين كانوا أهدافًا مشروعة للتخريب والتدمير في نهاية المطاف، عن طريق الثورة المدعومة من قبل موسكو، أو بكين. وبطبيعة الحال، تصرف الاتحاد السوفيتي بشكل حذر أكثر من ذلك بكثير، ولذلك (تمامًا كما تعاونت الولايات المتحدة دائمًا مع الحلفاء السلطويين وحتى الشموليين) سعت موسكو لتحالفات مع دول «برجوازية» مثل الهند. ومع ذلك، بقي المبدأ الشيوعي، وسعى الاتحاد السوفيتي في الواقع لوضعه حيز التنفيذ في أماكن أخرى. في أوروبا الغربية، دعمت موسكو في معظم أنحاء الحرب الباردة الأحزاب الشيوعية التي سعت لإسقاط النظم السياسية، والاقتصادية القائمة في بلدانهم. إلى حد ما، دعمت الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بالمثل، متنكرين لشرعية الدول الشيوعية، الأفراد والحركات التي تهدف إلى إطاحتها، واستخدمت أجهزة المخابرات الغربية لهذه الغاية. التدخل الأمريكي الكاتب ذكر أنه مع وصول «دنغ شياو بينغ» إلى السلطة في الصين، و«ميخائيل جورباتشوف» في روسيا، انتهى دعم الثورة العالمية، وتم الاعتراف بالشرعية الكاملة للدول «البرجوازية». ولمدة 25 عامًا بعد نهاية الحرب الباردة، ونهاية الاتحاد السوفيتي، لم يكن هناك أي محاولة على الإطلاق من قبل أي من روسيا، أو الصين لتقويض الدول الغربية، أو التأثير في السياسة الداخلية. كانت هناك محاولات بالطبع للتأثير في السياسات الأمريكية والغربية الدولية، ولا سيما السياسة تجاه روسيا والصين، ولكن هذا كان بواسطة وسائل مشروعة تمامًا لتشجيع جماعات الضغط التجارية، والكتاب المتعاطفين. وأضاف بقوله إنه في تلك الأثناء، ومع ذلك، بات التدخل في السياسة الداخلية للدول الأخرى لنشر الديمقراطية، وتقويض، أو تدمير المنافسين جزءًا ثابتًا من الاستراتيجية الدولية الأمريكية، مع جذور عميقة في القومية الأيديولوجية الأمريكية، ومبررًا على ما يبدو بانهيار الكتلة السوفيتية، و(كما يبدو الآن، ربما مؤقتًا) إقامة الديمقراطية في أوروبا الشرقية. فيما يتعلق بالسياسة الداخلية الروسية، فقد شجع المسؤولون الغربيون والأمريكيون علنًا حركات المعارضة، وظهروا في مسيرات المعارضة. وفر الغرب القواعد المؤسسية للجماعات المعارضة الغربية في المنفى، وحتى في حالة بعض أعضاء حركات التمرد الانفصالية الشيشانية المسلحة، وكان نشر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تفاصيل مزعومة عن ثروة بوتين الشخصية، يرمي بوضوح إلى تشويه سمعته، ونظامه، وتعزيز خصومهم. وأوضح الكاتب أنه في هذه العملية، نسيت نخب السياسة الأمريكية والأوروبية، أو اختارت تجاهل عدد من الأمور. أولًا، أنه ليس من الحكمة أبدًا اعتماد نهج معادٍ -بشكل صريح- تجاه حكومات أخرى، ما لم يكن هذا ضروريًّا حقًّا من وجهة نظر المصالح الخاصة، والعالمية، أو أن تكون هناك قناعة بأنهم لا يستطيعون الرد بنفس الطريقة. ثانيًا، لم يكن من المسلم به أن تورط الولايات المتحدة في السياسة الداخلية قد تم فقط، إذ كان هناك توافق في الآراء، في نهاية المطاف على مستوى النخبة، حول أن المصالح الوطنية للدولة المعنية بالتدخل تقف إلى جانب الولايات المتحدة (كما كان الحال في رغبة أوروبا الشرقية في الابتعاد عن روسيا). واستطرد بقوله إنه أينما يكون هناك إجماع وطني -بما في ذلك بين معارضي النظام- يرى المصالح الوطنية باعتبارها تختلف عن نظيراتها في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن المحاولات الأمريكية، التي تحاول التأثير في السياسات الداخلية من المرجح أن يتم التشكك بها، وينظر إليها باستياء كمحاولات لا تخدم الديمقراطية، ولكن مصالح وقوة الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا بدوره يخدم فقط الأنظمة المعنية، والتي يمكن أن تصور خصومها المحلية عملاءً خونة للولايات المتحدة. ويمكن في الواقع أن يقال دون مبالغة إن النتيجة الوحيدة من تورط الولايات المتحدة في السياسة الداخلية في روسيا، والصين، وإيران كانت لتعزيز أنظمة البلدان المعنية. وأخيرًا -حتى بعد كوارث العراق وليبيا- ليس هناك تقريبًا أي وعي بين صناع السياسة الأمريكية بحقيقة أن محاولات الولايات المتحدة لتغيير الأنظمة في بلدان أخرى من المرجح أن ينظر إليها -ليس فقط من قبل النخب في تلك البلدان، ولكن أيضًا من قبل سكانها- باعتبارها تؤدي إلى تدمير الدولة نفسها، مما يؤدي إلى كارثة للمجتمع والسكان. عندما انهار النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، اقترن ذلك بانهيار الدولة السوفيتية ذاتها. في أعقاب ذلك، شهدت الساحة الدولية تقليصًا للدور الروسي في السنوات التي تلت ذلك، وعانى قطاع كبير من السكان الروس، وغيرهم من كارثة اقتصادية، واجتماعية، متذكرين تجاربهم السابقة من انهيار الدولة، والمجاعة، والغزو الأجنبي. نظر الشعب الصيني إلى هذا المشهد المرعب، واحتشد حول الدولة الصينية -الدولة التي قد لا تروق لهم في نواحٍ كثيرة، ولكنها الدولة التي تحظى بثقتهم أكثر مما يثقون بأي شيء تقدمه الولايات المتحدة- لا سيما في ضوء الاضمحلال الواضح للديمقراطية في جميع أنحاء الغرب. واختتم الكاتب بقوله إن رفض الولايات المتحدة لشرعية دول أخرى، حاملًا معه تهديد التدخل المحلي والتخريب، ينظر إليه من قبل تلك الدول، والكثير من سكانها كتهديد وجودي على الأقل؛ ومثل هذه التهديدات الوجودية تجعل العلاقات التعاونية والسلمية أكثر صعوبة، إن لم تكن مستحيلة. هذه هي النقطة التي رصدها «هيو وايت» في كتابه «اختيار الصين»، والذي يقول فيه إن اعتراف الولايات المتحدة بالشرعية الكاملة للدولة الصينية هو جزء أساسي لإقامة العلاقات الأمريكية الصينية على أساس من شأنه أن ينهي التهديد المتزايد بحرب كارثية. ناشونال إنترست