الولي ولد سيدي هيبه
تشكلت فلسفة "السيبة" على الأخذ بنصف الدين و الإبقاء على نصف الجاهلية
ليد ال ما صبت تكطع حبها
في مجتمع أخذ أهلُه بنِصف الدين و أبقوا على نصف الجاهلية قطعا أنها تحظى بالتقبيل اليدُ القوية التي لم يُقدر على قَطعها، لأنه لا منطقة عنده وسطى بين الانصياع و الزوال. هذا ما علمته إياه "السيبة" منذ كان الأخ يأخذ نعجة أخيه ليضمها إلى نعاجه التسعة و التسعين و يُجبرُه على تقبيل يده ليحظى عنده برعايتها مع القطيع، أيام كان الأخ أو ابن العم الأقوى الذي يتمتع ببسطة من البطش "يمنح" الأخ الأكبر أو ابن العم الهرم والد البنات السبعة "بقرة" حلوبا منحة في طيها فخر و استعلاء.. و غير بعيد يدفعه و بناته بالقهر إلى تقبيل يده العصية على البتر.. و إن ذلك الزمن الماضي بقي حي التصريف في زمن حاضر البلاد و إن بأدوات جديدة.
و لا شك أن هذا المثل "ليد ال ما صبت تكطع حبها" ـ الذي يتردد على كل الألسن من دون أدنى اكتراث بسوء المعنى الذي ينطوي عليه ـ هو دعوة صريحة إلى بتر الأعضاء كلما لاحت إمكانية فعل ذلك لأن يَدَ صاحب السكين هي وحدها التي تستحق البقاء و البطش في البلاد و بالعباد من حولها و تركيعهم تحقيقا و تلبية لما تهواه من تسلط على الرقاب و تمتع بما يملكون. وَ إن تعذر شلُّ هذه اليد قبل قطعها يظل لزاما أن يُظهر لصاحبها الودُّ و الاحترامُ و الطاعة وتقبيل وجهها و ظهرها ترجمة و إثباتا لذلك الولاء. لكن بالمقابل يكون المُقَبِّلُ قد وَقَّعَ على صك بقاء أطرافه سليمة و ضَمن دُخولَه تَملقا و نِفاقا زمنَ ترصد الفرص للإنقضاض لؤما و ثأرا. هي دوامة حربائية "السيبة" تارة و وحشيتها تارة أخرى. حربيائية تؤمن باللحظة و لا تؤمن بالزمن المنساب، و بالإنفراد بالغنيمة لا بقسمتها و لو كانت قسمة ضيزى؛ حربائية عصية على البتر، تُجيزُ النسيانَ بعد الإغارة و تحظرُ التفاوضَ و المهادنةَ إلى أي مبتغى سليم؛ حربائية تعاقرُ كل ألوان تضاريس العلاقات المضطربة لمجتمع أخذ كما أسلفنا بنِصف الدين و أبقى على نصف الجاهلية.
مصطلحات "السيبة" ... ال ما نافق ما وافق
"ال ما نافق ما وافق" عبارة نرددها عند كل امتحان صعب في مشوار حياتنا و نمسك بها مفتاحا سحريا لتبرير النفاق و التملق و الإقدام على عمل دنيئ مباح. و هي بهذا العبارة التي أصبحت "صك" مرور مرخص بعد "التسلل" المقبول لتحظى بالتشريع الصريح من كل فئات المجتمع. و لا خلاف مطلقا على أن النفاق خسيسة يتحول بموجبها الكذب إلى حق و يُجرد بها الإنسان من الاستقامته أمُّ المحامد و الخصال، و يُكرس الظلم بتغليب الباطل، و تُقلب كل الموازين الحسنة إلى أضدادها بتشريع لا يعترض عليه حتى أهل المعرفة و أولو الأمر، ليس لأنهم في حل من ممارسته بالنظر إلى قوة وضعهم ـ و قد مارسوه حتما من قبل ـ و لكن من أجل الاستمتاع بإطرائهم نفاقا من أفواه غيرهم سعيا إلى إرضائهم، و يُكذِّبون أنفسَهم إنما حيوا بما لم يحييهم به الله تزلفا إليهم و خوفا منهم و طمعا فيما عندهم. و النفاق بهذا الوجه الوضيع منتشر في أوصال المجتمع انتشار النار في الهشيم بحيث يتنفسه الناس ضرورة حياتية مع كل شهقة يَتعَاطاهُ الأطفال لاستدرار عطف والديهم و ما عندهم، و تتخذه المرأة مطية ذلولا لابتزاز بعلها و يبين به الموظف لرئيسه في العمل طمعا في ترقية، و يمارسه السياسي على أهل الغلبة من أجل التقرب منهم في بروجهم العالية، و يمتهنه الصحفي عند كل ذي مكانة تدر نفعا. و خلاصة الأمر أن النفاق برسم الحصول على رضا الأقوياء و الأغنياء مستحب عندنا بل و مشروع بكل المقاييس، مبرر في كل المواقف و الأوقات و المناسبات، لا يختلف على ذلك اثنان و أنه من ميراث شرعة "السيبة" التي غلبت على نهي الدين عنه و توعد أهله بالخسران.
فمتى نعلم أنّ من أمراض النفوس، التي انتشرت في مجتمعنا، مرض النميمة والنفاق، و أنهما داءان خبيثان يسريان على الألسن فيهدما الأُسر، ويفرقا الأحبة، و يقطعا الأرحام و يهدما أركان الدولة و أن أشدّ النّاس نفاقاً من أمر بالطّاعة و لم يعمل بها، و نهى عن المعصية و لم ينته عنها.
مصطلحات "السيبة"... الكزرة
و تستمر على أشدها مهزلة المصطلحات الطافحة بمخالفة شريعة الإسلام و قياسات القانون و مبادئ الأخلاق السامية لتقويض كل جهد إلى دولة العدالة و القيم العالية تحت كفالة المصطلحات النقية من أدران النفس الأمارة بالسوء. فقد سمعت إمام مسجد كنت أرتاده يقول في معرض حديث جانبي عن وضع توسعة للمسجد إنها تقوم على أرض "مكزورة" أي مأخوذة عنوة. و سمعت وزيرا يقول عن إحدى مشاركات قطاعه في مؤتمر لم يستدع له خارج البلد "اكزرنا" مقعدا لم نكن لنجلس فيه لو اتبعنا السبل السليمة. و سمعت ذات مرة رجلَ أعمال يتباهى بقوة نفوذه و هو يقول (اكزرت) الساحة العمومية التي كانت في المخطط لمعماري أمام بيتي و شيدت فوقها مجمعا تجاريا، و قال لي أحد الموظفين إن تأديته الحج العام المنصرم جاءت عن طريق (الكزرة) بأمر سامي. و قال لي أحدهم إن رئيس حزب هو من (كزر) لي التعيين في هذا المنصب. و من المفارقات أنني سمعت أيضا صاحب عربة يجرها حمار يقول مزهوا أنا لا أتوقف عند الإشارة الحمراء و كل الطرق أقتحمها (كازرا) لا أبالي إن خدشت السيارات و اصطدمت بالمارة. و في أحد المصارف سمعت نسوة يتقاسمن لفظا الحصول على المكان المتقدم من كل صف أمام شباك السحب و الإيداع و يسمين العملية (الكزرة). و مصطلح (لكزير) الذي جاء من أعماق "السيبة" السحيقة تحول إلى عمل شرعي لا قانون يجرمه و لا مسطرة أخلاق تعيبه بل و تقره فوق ذلك موازين القوى في كل موقف... إذ هو تحت كل جناح.
الأخ (لراح) المموه أو الأكذوبة.. الظاهرة المدمرة
لإن كان الرعيل الأول و الذي قبله قد تركا آثارا حميدة في منظومة أخلاقنا و مسطرة تعاملاتنا، و أورثا الأبناء و الأحفاد العض بالنواجذ على الدين الإسلامي و بُغض و اجتناب كبائر الإثم و اللمم فإنهما قد تركا كذلك في خط موازي ميراثا مشوشا من المعاملات التي تركت في جسم المجتمع من العاهات ما يشل توازنه و يضعف من عزمه أمام النوائب فتراه ينجرف إلى أعمال لا تمت إلى الصبر و فضله و القبول بالقضاء و القدر و ثوابه. طباع و مسلكيات غطوا عليها بستار مبتور الأركان الساندة من حجية الدين حول مدونة لفظية رفيعة زادها سيل عرم من المفردات الجميلة و استشهاد لا ينقطع من مآثر الأخلاق الحميدة الرفيعة و لكن في تناقض مهين عند الترجمة إلى الأفعال ضمن سيرة مضطربة في العلاقات التي تحكم مجمل التعامل. و إذ هي كثيرة فلا بد من نفض الغبار عنها و القيام بإصلاح ما دمرته من خلال التوعية حول مساوئها و أضرارها الجانبية الخطيرة على مسار الأمة. و من دون ترتيب لما يحضرني منها فقد اخترت لهذه الخاطرة "ظاهرة الإخوة غير الأشقاء" و آثارها السلبية على السلوك و مسطرة المعاملات الاجتماعية للأفراد و النسيج المجتمعي ككل و على مسار الدولة المنوط بها إصلاح المجتمع و صهر أفراده داخل بوتقة مِثاليةِ "السلوك" و رسوخ "قيم" المساواة في الحقوق و الواجبات.
تقول "آنا لويند لين" ـ بغير منطق أغلبنا ـ "إنني لا أتصور كيف يمكن أن يحيا الناس دون أن يكون لهم أخوة، و إن كل ما تعلمته عن التفاوض والتعايش والكراهية، والاختلافات الفطرية والحب، فضلاً عن المعرفة، تعلمته من إخوتي".
و الأخوة، التي قَتَلَ أغْلبُنا لُبَّها و رمى إلى مائدة أفعال القلوب أحشاءَها و قلبَها و كبدَها و كِلاها و أطرافَها، كلمةٌ تحمل بين طياتها دفئاً وإحساساً يلونان ويجملان الحياة بأروع ألوان الحب. فالأخوة هي السند والعزوة والقوة والأمان، وهي أسمى علاقة إنسانية وطيدة نتعايش معها منذ الطفولة إلى الشيخوخة. و لكننا بكل أسف نرى في مجتمعنا البعض الكثير ـ رغم الذي يعلون به الأصوات من تدين و أدب ـ يَغْتَالُ الأخوة ويحولها إلى كراهية وجفاء، و عدم اكتراث بالود والمحبة، و صلة الأرحام، بل نشاهده يذكي نار عداوة بسبب أن الأخ غير شقيق الذي يدعى بكل خبث " الخُ لراح" أي الأخذ "بالتمويه" أو المزيف أو الخرافي إمعانا في رفضه أو التقليل من شأنه و الذي هو في الغالب نتيجة الفوضى و كسر السيبة في كل شيء قواعد الاعتدال المجتمعي. و يبقى كل العزاء أنه في علمنا و إدراكنا أن هذا المصطلح بما يحمل من رجس و سوء طوية ليس بالتأكيد قاعدة عامة.