من أمن العقوبة ساء الأدب (ح1)

يقال بأن "من لم يرض بحكم موسى رضي بحكم فرعون" وأن "مَنِ اصطَنَعَهُ السُّلْطَانُ صَبَغَهُ الشَّيْطَانُ"، لذلك فقد يكون الصمت أشد خطرا من الخيانة والجبن والارتزاق والتواطؤ، فعندما يعتقد بعضنا أن التقدم ملحاح يتم بمرور الزمن، و أن كل ما هو لاحق يتطورباستمرار على ما سبقه، فهذا عجز فى موازنة الفكر والتنظيم وتفريغ للمحتوى الابداعي من كل طاقة أو رمق.
وبما أن المعاناة أصبحت ترسم طريقها في حياة الناس بالموازاة مع محاولات بعض الأطراف الرسمية وشبه الرسمية أن يتم غض الطرف عن الواقع السيئ الذي تعاني منه البلاد ، من خلال تغيير الأشخاص وإدمان لعبة تبديل الكراسي ، واستغلال عدم جدية الموالاة أو" الأغلبية الصامتة " ، فإن على النخبة السياسية وقادة الرأي في بلادنا أن يشاركوا بفعالية من خلال الحملات الضاغطة على الحكومة الموريتانية لرفع المعاناة عن الشعب وتمكينه من الاختيار بين البرامج المتعددة ، وإدانة التجاوزات ورفض المقترحات والإجراءات الحكومية الضارة .
غير أن حالات كثيرة بعينها وقع فيها الحيف وساء معها الأدب على الوطن والمواطن بسبب عدم الخشية من العقوبة ، وانتشار الآراء المغشوشة واحتكار المنابر وعدم جدية المعارضة والأوساط المستلبة ، ومع ذلك فإنني سأتطرق بإيجاز في هذه الحلقة إلى الحالتين التاليتين فقط : 
ـ ففي مراكز الحالة المدنية التي لا يتناسب عدد مكاتبها أصلا مع عدد السكان في كل مقاطعات الوطن رغم كثرة الرسوم والإتاوات التي أنهكت قلوب وجيوب الفقراء ، فإن بيت داء الرشوة والزبونية وسوء الأدب قد تم تشييده في هذه المراكز غير المدنية ، لأنها لا تحترم المواطن ، بل إنها تهينه فلا يستطيع أن يحصل على أوراقه المدنية إلا بواسطة الرشوة والوساطة مع ضياع الوقت ، أومن خلال نوافذ مركز الحالة المدنية وهو واقف على المجاري الصحية تحت أشعة الشمس يتصبب عرقا بغية استخراج بطاقة أو تجديد أخرى ، يضرب في نفس الوقت بسياط من يدعون أنهم يريدون المحافظة على الطابور ، وهم في الحقيقة يسعون لمقابلة صاحب الجهاز لكي يسحب لهم البطاقات التي استلموا رشوة عن كل ورقة منها .
ولا يشفع للمرضى أن حياتهم معرضة للخطر ، فقد مات الكثير منهم وهم وينتظرون جوازات سفرهم التي تعثرت بسبب كتابة حرف بدل آخر ، أو زيادة أو نقصان دون أن تتم محاسبة وكلاء الحالة المدنية الذين كتبوا هذه الوثائق ، وحرموا المواطن حقه بسبب المماطلة والأخطاء الفادحة الأخرى .
ـ أما بالنسبة لنظام الصندوق الوطني للتأمين الصحي فإنه هو الآخر قد أساء الأدب بشكل كبير ، لذلك كتبت عنه قبل سنة مقالا تحت عنوان (" اكنام CNAM ":عقوق للوالدين وظلم للمؤمِّنين ) جاء في بعض فقراته :
قد لا يتصور البعض أن دولتنا المسلمة التي ضرب أبناؤها أروع الأمثلة في التكافل والوفاء والبرور والإيثار ، أضحت الآن تحظر على الأبوين عمليا الاستفادة من التأمين الصحي عند ما يكون ابنهما هو المؤمِّن الرئيسي في نظام الصندوق الوطني للتأمين الصحي ، وأنها في نفس الوقت أعطت ذلك الحق للزوج والأبناء فقط .
ومع أن الدولة قد قطعت من رواتب أبناء موريتانيا البررة المؤمِّنين دون موافقتهم أكثر من 4% ، لفائدة هذا الصندوق فقد أساءت لهؤلاء الأبناء حين حرمت والديهم وأرحامهم من عائدات نسبة مساهمتهم في التأمين الصحي التي تم قطعها ، وأساءت أكثر من ذلك للأبوين الذين أمر الله تعالى بالاحسان إليهما.
غير أن تجاهل النصوص المعصومة ومفاهيم العقول السليمة ، قد واكبه خلال إنشاء الصندوق الوطني للتأمين الصحي ببلادنا تكريس للسردية الغربية وازدراء بالموروث الحضاري للأمة ، والتزام مطلق بشرط الولاء للخطاب الإستعماري المتماهي والتابع ، ونقل حرفي لقوانين ونظم أمم بعينها تعتبر العقوق سلوكا متحضرا يتناغم مع الحداثة وحرية التعبير والإرادة والتملك ، كما أن هذه الأمم قد استقر رأيها على أن استيفاء خوارم المروءة يعصم الفرد من الاستغلال من طرف أبويه وتدخلهم في حياته الشخصية .
لذلك يعتقد من يرتهن للآخر ويعيد انتاج ما يكتبه ، أن عليه أن يسلك سبيل قوم آخرين حتى في أبسط الجزئيات ، وهنا نستحضر قول نبينا الحبيب الذي لا ينطق عن الهوى محمد صلى الله عليه وسلم : (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، قَالَ: فَمَنْ؟) .
ومع هذا فإن التزامات الصندوق تجاه الفئات المعنية بنظام التأمين الصحي ليست أكيدة ، ولم تكن عفوية ، مثل ماهو معمول به عند جني المبالغ الكبيرة التي تقطتعها الدولة من رواتب أبناء الوطن المؤمِّنين دون موافقتهم لفائدة هذا الصندوق ، الذي فرض على المؤمن نظاما معقدا ، مع العديد من الإجراءات التي لايمكن أن تتحقق في كل الأوقات ، سيما أن الصندوق قد تعمد أن يسأم المريض ويترك بعض الاجراءات بسبب صعوبتها مع ما تتطلبه حالته المستعجلة ، أوبسبب قلة التعويض ، وكثرة تكاليف التنقل بغية توفير كافة الاجراءات .