عادة ما يكون واقع الحرية الواضح أو المعمول به في مجتمع ما مجرد ستار لقبضة أمنية أدق وأقوى مما قد يتصوره البعض ، وهو ما يحدث في واقع الجمهورية الإسلامية الموريتانية منذ مرحلة ما بعد انقلاب 2005 التاريخي ، الذي أنهى حقبة توصف الآن بالسوداء من قبيل رجال الدولة
ورموزها مع أنهم هم أنفسهم ومن يحتل الصدارة فيهم شركاء في تلك الحقبة وبعض صانعي أزمتها الرئيسية التي بررت انقلاب 2005 ، وهو أمر واضح ، لكن التطورات التي حدثت بعد ذلك كان تحمل قدرا لامتناهيا من آمال وأحلام الوطنين ومن يحبُ التغير في هذا البلد في الوقت الذي رسم النظام الحالي من خلال بداية سياسته نموذجا يسعى لذلك من خلال ما اتخذ من شعارات وربما تبين فيما بعد أنها مجرد تحركات ضمن شعارات بارقة لا تصلح إلا للاستهلاك فقط ، وأنها لم تكن حرية ولا حالة جادة بقدر ما كانت محاولة لتجديد القبضة الأمنية القاسية التي انفلتت منذ أواخر حقبة الرئيس السابق ولد الطايع.
هناك مسلمة وقاعدة فلسفية قديمة وواضحة مفادها أن يمكن أن يحدث شيئا بمحض الصدفة أي أن الصدفة ذاتها غير ممكنة وأنها ما هناك أشياء تؤدي إلى حدوث أشياء أخرى ، أي أن الغاية لا بد لها من وسائل وآليات من تحقيق أهدافها الكلية والجزئية في آن واحد .
وعلى هذا المنطق ووفق هذا المسار يمكن أن يجزم الشخص أن كل ما يحدث على المستوى السياسي لم يحدث بمحض الصدفة وإنما كانت هناك إستراتجية على المدى البعيد تحرك رموز وشخصيات ما بعد انقلاب 2005 ، وهي إستراتجية ذات أبعاد مختلفة ومتعددة بتعدد القائمين على المسار نفسه وباختلاف الشبكات والمناطق التي اشتغلوا عليها وهو أمر معقد يحمل في ثناياه الواضح والجلي في الوقت الذي يحمل الصامت والخفي .
فلم تكن السلطة الانتقالية ـ التي يبدو أيضا أن بعضا من رموزها عانى من نفس ما عانت منه المعارضة الحالية التي باتت توصف بالراديكالية ـ إلا سلطة من أجل تجديد وتقوية إبرام القبضة الأمنية التي فشلت إدارة ولد طايع في إبرامها بالخصوص بعد انقلاب 8 يونيو 2003 وإدارتها بأسلوب مختلف عما كانت تدار به في السابق ، ولم يكن الرئيس الحالي الذي قاد انقلاب 2005 إلا جزء من النظام السابق وطرف فيه اختطف في لحظة ما الأضواء سرا وعلنا وأبرم القبضة الحديدية على المهمشين والمعارضين والمتمردين الذي ذاع صيتهم في أوخر حقبة ولد الطايع .
بناء على كل ذلك وبناء على مختلف المستجدات السياسية المطروحة الآن والتي كثر فيها القيل والقال ، أحب أن أقدم نقاطا عن فهمي لطبيعة النظام الحالي والقائمين عليه ، وعلى الظروف التي لم تكن تحكمها الصدفة كما أشرتُ والتي أفرزت مختلف ما نعيشه الآن .
لم يكن النظام الحالي كما أشرتُ في هذه الأسطر وكما دونتُ في مقالات سابقة إلا جزاء من النظام السابق اغتنم فرصة الأزمة التي لحقت بحكم لد الطايع في ذات الوقت الذي اغتنم فيه ثقة الرجل الكاملة نتيجة لمساهمة كتيبته في إفشال انقلاب 2003 ووسم نتيجة لذلك وكان وراء كل تلك الأزمات التي دارت في تلك الفترة منفذا عن بعد أو مراقبا أو عالما ، وبعد أن بدا له أن الانفلات الأمني متفش وأن الأمور لا يمكن أن يسيطر عليها بهذه الطريقة ، حاول هو ومن معه إفحام النظام في مزيد من تلك المتاهات في الوقت الذي خططوا فيه ونفذوا لانقلاب أو تغير أزاح رأس النظام واتى بنظام جديد كانت لأهله أيادي خفية وأخرى ظاهرة .
انتهت تلك الفترة وقُدم مدير الأمن الوطني للرئاسة ليس لأنه الأفضل بل لأنه كان أول الضحايا الذين حُرقوا وهم يظنون أنها الفرصة التي سمحت لهم بتقديم أنفسهم كفرسان وكأبناء بررة لهذا البلد ، ولأن التخلص منه كان يتطلب عملية من نوع آخر وإفحام الكل في مسرحية ديمقراطية يتم بموجبها تسليم السلطة لمدني منتخب تبين فيما بعد انه كان رئيسا بلا سلطة وأن حبالا خفية تقيده وتحركه كدمية ، وعند ما حاول الخلاص رموه بعيدا ...
إنها العملية الإجرامية الوحيدة في تاريخ هذا البلد التي باتت توصف على أنها بطولة وأنها حركة تصحيحية ...!
طبعا كل هذا الكلام أدى إليه النظر في الأوضاع الحالية وبالخصوص ( التغيرات الدستورية والرئيس المنتظر الذي سيدعمه ولد عبد العزيز) ،
ففي التعديلات الدستورية تم الحديث عن الجمهورية الثالثة وعن تغيير العلم والنشيد وهي قضايا لا تقف وراءها إلا رغبة عزيز في وضع بصمة له تبقى بعده في موريتانيا إلى الأبد ، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على نرجسية الرجل الزائدة المولعة بالتفرد وبالتقدم في كل شيء وسعيه إلى بقاء اسمه في موريتانيا وكأنه الذي قاد التأسيس الثاني للجمهورية وأب التقدم والازدهار فيها وهي أشياء لن تتحقق إلا إذا كان ولد عبد نفسه أهلا لذلك وهو شيء مفقود فالرجل الذي حكم البلاد بشكل خفي سنوات وحكمها بشكل جلي وبيِّن سنوات ضعف تلك الأولى لم يستطع أن يحصل على وسم توافقي بين الجميع ، بل أكثر من ذلك لم يستطع أن يكسر الأزمة السياسية التي دخلت فيها البلاد منذ أن حكم هو بنفسه بصورة ظاهرة .
هناك أمر لابد من أن نشير إليه من باب استحالة الصدفة وانعدامها بشكل جلي وهو أن دعاوي تغيير العلم شيء لم تظهر إلا مع حقبة هذا النظام ، فظهر المطالبون بتغيره علنا ، وظهرت أكثر من ذلك قضية لون بطاقة التعريف الوطنية الأبيض الذي لا يمتُ بصلة لأي من الشعارات الوطنية المعتمدة ...
وهناك قضية أخرى استوقفتني وهي علاقة العلم والنشيد وراوياتهما بكتاب موريتانيا المعاصر لمؤلفه سيد أعمر ولد شيخنا ، فما قال ولد عبد العزيز في حفل اختتام مهرجان الحوار الذي نظم مؤخرا لم يكن إلا كلاما مستنسخا من ذلك الكتاب ، ضف إلى ذلك كون الكتاب كان لمؤلفه المنتمي لحزب معارض محسوب على حركة الإخوان المسلمين وهو التيار الذي يعادي بقوة المستشار الإعلامي للرئيس "اسحاق الكنتي" ويهاجم بشراسة ، لكن الغريب أن الرجل عند ما يهاجم القوم في أي قضية يستثني منهم مؤلف الكتاب ويقول أنه باحث من خيرة الباحثين الوطنين ... !
هل دفعه إلى ذلك انتماءه الاجتماعي ؟ أم أن استثناءه لذلك الشخص يحمل دلالة أخرى.؟
اللهم أعلم ... المهم أن العلم والنشيد وغيرهما من المقدسات كلها ضمن دائرة الأهداف النرجسية لولد عبد العزيز وزمرته هذه ...
وما سيأتي بعد ولد عبد العزيز وما سيدعم في انتخابات 2019 لن يكون إلا دمية ستُحكم من خلاله القبضة وتُدار بطرق مختلفة أخرى ، هذا إن لم يكن للمعارضة كلمة أخرى تفرض فيها توجهات مخالفة لما يحيك ولد عبد العزيز ..