بدَا مطار «نواكشوط الدولى - أم التونسى».. أنيقاً للغاية.. وجاء استقبال الموريتانيين لضيوفهم كريماً وآسراً.. ثمّة ابتسامات طيّبة بلا حدود تديرُ الانطباعَ الأول.. فى زيارة هذا البلد البعيد القريب.
يُمثِّل المطار الدولى نموذجاً للأصالة والمعاصرة معاً.. فهو مطار حديث جرى افتتاحه قبل شهور.. لينقلَ موريتانيا إلى مستوى أفضل. ثم إنّه يحمل اسماً تاريخياً «أم التونسى».. وهى المعركة البطولية التى قادتها المقاومة الموريتانية الباسلة ضدّ الاستعمار الفرنسى.. التى قُتل فيها حفيد الرئيس الفرنسى.. وحققت المقاومة أثناءها نجاحاً كبيراً.
(2)
ثلاثون كيلومتراً من مطار نواكشوط إلى المدينة التى تتكون كلها من منازل وفيلات ولا تعرف العمارات.. تسيرُ السيارات فى الأغلب بسرعة هادئة هى عشرون كيلومتراً فى الساعة.. وتنتشِر سيارات الدفع الرباعى على نحو لافت، وتحظى إشارات المرور فى أوقاتٍ كثيرةٍ بالاحترام.
الساحل الموريتانى على شاطئ المحيط الأطلنطى منبسِط تماماً.. أرضٌ مستويةٌ على مدى البصر.. إنسانٌ هادئٌ وطبيعةٌ هادئةٌ.. ولا يكمن الغضَب إلاَّ فى أمواج المحيط.
يدرك الموريتانيون جغرافيا الغضب فى بلادهم.. فاختاروا فى تأسيس عاصمتهم نواكشوط البعد التام عن مياه المحيط لعدة كيلومترات.. وهى المدينة الوحيدة فى العالم التى تركت البحر وحيداً.. لتعيش على مسافةٍ منه!
(3)
ثم كانت الخصومة الثانية مع البحر.. حيث تزخر المياه بكميات هائلة من السمك.. وتحتل البلاد المركز الأول عربياً فى صادرات الأسماك.. ولكن الشعب الموريتانى لا يأكل السمك.. ومن ثمّ فإن البحر لا يمثِّل له الكثير.. لا الجمال ولا الطعام!
لكن الحكومة تسعى إلى تغيير ذلك المشهد.. ثمّة مشروعات سياحية بدأت فى الظهور.. وثمّة حملات مكثّفة لحثّ الشعب على تناول الأسماك.
(4)
تزيد مساحة موريتانيا على ضعف مساحة فرنسا، ويتجاوز عدد سكانها الثلاثة ملايين نسمة.. يعيش مليون موريتانى فى العاصمة وتعيش الأغلبية فى البادية.
الصحراء الموريتانية على قسوتها لا تخلو من الروعة.. وحياة البادية تمتلئ بالحكايات والقصص.. وبنموذجٍ كاملٍ للحياة.. إنها الخيامُ، والملابس التقليدية (الدرّاعة).. وهى لحم الماعز وحليب الناقة، وبحار الرمل ووجه القمر.
أصبحت موريتانيا ذات الثقافة العريقة.. «بلد المليون شاعر».. وهو لقبٌ قديمٌ.. حين كان سكان البلاد مليون نسمة.. واليوم هى -فى رأى البعض- بلد الثلاثة ملايين شاعر. والإبداع هو الوجه الآخر للحياة.. وبينما تُعبُّر الغالبية عن إحساسها بمحيطها.. نثراً وشعراً، فإن البعض يتأمَّل دونَ حديثٍ.. فالصمتُ فى حرمِ الجمالِ جمالُ.
(5)
لكن بعضاً من الجمالِ كان على وشك الانهيار.. ذلك أن التطرف -محنة كل بلدٍ مسلمٍ- كاد يعصف بالدولة والمجتمع. وفى عام 2007 كانت التفجيرات والاعتداءات تنذر بالخطر الجسيم، وكان يتوازى مع ذلك بقايا من ثقافة الكراهية التى أخذتْ من الجاهلية.. نظام الرقِّ والعبودية. ولكن المثير.. هو أن موريتانيا تجاوزتْ محنتها بكفاءةٍ واقتدارٍ.. وبسرعةٍ فائقةٍ.. حيث نجحت خريطة الطريق فى تفكيك العبودية.. وتحالفَ علماء الدين ورجال السياسة فى التخلُّص من بقايا العصور الوسطى، وإقرار قيم الحرية والمساواة.. والانطلاق إلى حركة العالم ورح العصر.
كما أن عملية تحديث الجيش التى قادها الرئيس محمد ولد عبدالعزيز.. قد نجحت فى إقرار الأمن والسلام.. فى بلدٍ تصل حدوده إلى خمسة آلاف كيلومتر.. وتجاورُ فى أحد حدودها دولة مالى التى باتتْ مكاناً بائساً للعنف والدمّ.. وعنواناً صادماً على أزمة الدولة والمجتمع.
(6)
لقد توازى ذلك كله مع جهود واسعة فى تعزيز الهوية الوطنية.. واللغة العربية، وقد مثّلت استضافة موريتانيا للقمة العربية -للمرة الأولى- إشارة إلى قوة الرؤية ووضوح الطريق.
إن «بلد المليون شاعر» بات «بلد الثلاثة ملايين سياسى».. حيث تمثل السياسة متعةً وتسلية، فهى بمثابة مهرجان اجتماعى.. يلتقى فيه الناس بعضهم البعض.. ولا يعدو الخلاف فى أوقات كثيرة أن يكون أداةً لإضفاء الحيوية على الحياة العامة.
لا تنفى متعةُ السياسةِ جديّة المعارضة والأحزاب والقوى السياسية.. ولكن هناك ما يُشبِه «العقد الاجتماعى».. القائم على حفظ السلام النفسى وحماية السلام الاجتماعى.. فلا يفقِد الفرد مساحة الهدوء ولا يفقِد المجتمع مساحة الحوار.
(7)
كانت زيارتى إلى موريتانيا بدعوة من وزارة الشئون الإسلامية والتعليم الأصلى.. وقد تحدثتُ عن كتابى «الجهاد ضد الجهاد» فى كلمتى بإحدى جلسات «المؤتمر الإسلامى الدولى».. وقد سعدتُ بالحديث مع وزير الشئون الإسلامية الدكتور أحمد ولد أهل داود، كما تشرفتُ بدعوةٍ كريمةٍ على العشاء من الشيخ العلاّمة عبدالله بن بيّه. وفى منزله العامر فى نواكشوط.. التقيتُ نخبةً من المثقفين والمفكرين.. وبدَا لى ذلك الوقت الرائع فى منزل الشيخ بن بيّه، وكأنَّ التاريخ قد عاد من جديد.. وأنَّ جزءاً من العصر الذهبى قد تمّ اقتطاعه.. فى الزمان وفى المكان.
من الدار البيضاء إلى نواكشوط ثم إلى الدار البيضاء من جديد.. سبعون ساعة رائعة فى بلاد شنقيط.
أحمد المسلمانى ـ إعلامي و باحث مصري