قبل الدخول في فقرات الترجمة الجزلة التي قام بها الأستاذ الكبير سيدي ولد متالي حول تفاصيل اعتقال ومحاكمة وإعدام الأمير التروزي المختار ولد امحمد ولد اعلي الكوري ولد أعمر ولد اعلي، نرى من الضروري أن نوضح للقارئ الظروف والملابسات السياسية والصراعات السلطوية المحيطة بحياة هذا الأمير اليافع الذي تربى يتيما وسعى إلى الإمارة وهو مراهق.
لقد حكمت إمارة الترارزه أسرتان من عقب اعلي شنظوره ولد هدي ولد أحمد بن دامان. فبعد أحمد بن دامان، مؤسس الإمارة إثر معركة انتيتام سنة 1631، والمتوفى سنة 1636، تأمّر ابنه هدي ما بين 1636 و 1684، ثم تولى بعده الإمارة ابنه السيد ثم بعده اخوه أعمر آكجيل ليصل الحكم إلى اعلي شنظوره الذي تأمر من سنة 1703 إلى سنة 1726. وحسب محمد فال ولد بابه وولد أبو مدين فقد تأمر بعد اعلي شنظوره أخوه الشرقي ولد هدي، إلا أن المختار ولد حامدن وبول مارتي يحذفان الشرقي من لائحة أمراء الترارزه، علما بأن خلافة الشرقي لأخيه اعلي شنظوره، على شؤون الإمارة، خلال مقامه في المغرب بحثا عن السند ضد البراكنه، لا يرقى إليها الشك.
بعد اعلي شنظوره، بدأ عهد أهل أعمر ولد اعلي الذي تواصل لمدة 74 سنة (تزيد أو تنقص قليلا حسب الخلاف في تواريخ الوفيات). وقد تميزت إمارة أهل أعمر ولد اعلي بأمور كثيرة، من أهمها أنها لم تشهد انقلابا واحدا لا هادئا ولا دمويا، بل لم يمت من أمرائهم مقتولا غير واحد توفي في معارك خارجية (ضد تحالف بين إمارة البراكنه والدولة الألمامية)، كما أنها الإمارة الوحيدة التي لم تعتمد التوريث الأبوي (أي أن الإمارة وصلت من أعمر ولد اعلي إلى ابنه المختار، لكنها من عهد المختار تعاقبت بين الإخوة وأبناء العمومة (داخل أسرة أهل أعمر ولد اعلي) إلى أن تم الانقلاب على حكمهم.
أول من حكم من أسرة أهل أعمر ولد اعلي هو أعمر نفسه الذي مارس السلطة الأميرية ما بين 1726- 1756، تولى بعده الإمارة أبنه المختار ولد اعمر ولد اعلي الذي حكم ما بين 1756- 1771، وتولى بعده أخوه اعلي الكوري ولد أعمر ولد اعلي الذي حكم ما بين 1771- 1784 (قتله جيش المامي عبد القادر: أحد أمراء الدولة الدينية في فوتاتورو المتحالف مع إمارة البراكنه). تولى بعده الإمارة ابن أخيه محمد الجواد ولد المختار ولد أعمر، وذلك ما بين 1784- 1792، ثم تولى بعده الإمارة أخوه عاليت ولد المختار ولد أعمر في الفترة ما بين 1792- 1794، ثم تولاها بعده أخوه أعمر ولد المختار ولد أعمر ولد اعلي المعروف بـ"أعمر ولد كمبه" الذي حكم ما بين 1794- 1800، وتوفي في زهرة العمر دون أن يترك أي وريث بالغ من جميع أفراد أسرة أهل أعمر ولد اعلي.
ثم يصل الحكم، في انقلاب أبيض، إلى أهل المختار الشرقي الذين عـُـرفت إمارتهم بـ"إمارة أهل محمد لحبيب".، وكان أعمر ولد المختار ولد الشرقي ولد هدي أول من حكم منهم في الفترة ما بين 1800-1829.
وكان امحمد ولد اعلي الكوري ولد أعمر ولد اعلي أول بالغ من أسرة أهل أعمر ولد اعلي يقود معارضة مسلحة ضد حكم أعمر ولد المختار (ولد الشرقي)، فحاول، خلال أيام مشهودة، استرداد الحكم، واستنجد في سبيل ذلك بحلفاء من داخل قبيلته، ومن أبناء عمومتهم أولاد دمان، ومن أصهاره إدوعيش خاصة في عهد الأمير محمد ولد امحمد شين.
وتولى الإمارة بعد أعمر ولد المختار ابنه محمد لحبيب الذي حكم في الفترة ما بين 1829-1860، وقتل من قبل أبناء إخوته في محاولة انقلابية فاشلة، ليتولى الحكم من بعده ابنه سيدي ولد محمد لحبيب الذي تأمّر في الفترة ما بين 1860-1871 وسقط قتيلا في انقلاب دبره أخوه أحمد سالم (الأول) ولد محمد لحبيب. وقد عرفت فترة إمارة أحمد سالم، الممتدة لثلاث سنوات، مناوشات ومعارك طاحنة مع أخيه أعلي (ابن اجّمبت: ملكة الوالو) انتهت بقتل الأول في شهر مايو 1873، ليستتب الحكم لأخيه الأمير اعلي ولد محمد لحبيب الذي قتل سنة 1886 في انقلاب دبرته جماعة من أولاد أحمد بن دامان من ضمنها أبناء أخيه خاصة أحمد الديد (الأول) ولد سيدي ولد محمد لحبيب ومحمد فال ولد سيدي ولد محمد لحبيب. وهنا أخذ محمد فال ولد سيدي السلطة الأميرية سنة 1886 في جو مضطرب لم يشهد استقرارا حتى قتل بعد أربع سنوات (سنة 1890) على يد ابن عمه أحمد سالم (الثاني) ولد اعلي (الملقب بياده)، وقيل ان محمد فال تنازل عن الإمارة لعمه أعمر سالم قبل مقتله، وإن تأكد ذلك يكون أعمر سالم قد حكم من 1890 إلى حين مقتله في إحدى معارك الصراع على السلطة سنة 1893. ثم استتب الأمر للأمير أحمد سالم ولد اعلي (بيّاده) من 1893 حتى اغتيل سنة 1905 على يد جماعة يقودها أحمد الديد (الثاني) ولد محمد فال ولد سيدي ولد محمد لحبيب.
في هذه الفترة بالذات دخلت الإمارة في العهد الفرنسي، فتأمر أحمد سالم ولد ابراهيم السالم وأحمد الديد ولد محمد فال بالتزامن تقريبا، حتى توفي أحمد سالم سنة 1929، لتبقى الإمارة عند أحمد الديد ولد محمد فال ولد سيدي حتى يوم وفاته سنة 1944، ويرثها منه ابنه محمد فال (ولد عمير)، ثم تعود لعقب أحمد سالم ولد ابراهيم السالم (ممثلا أولا في احبيب ولد أحمد سالم).
في هذه الظروف، كانت المصالح الاقتصادية، المتمثلة في تجارة الصمغ وما تدره من ضرائب، وفي الإتاوات والإكرامات الممنوحة من قبل الفرنسيين والوسطاء التجاريين، قد طغت على كل الجوانب الأخرى، فتفكك، شيئا فشيئا، حلف أهل أعمر ولد اعلي تبعا لموازين القوة، وقلّ عددهم هم أنفسهم، ولم تنجح محاولات امحمد ولد اعلي الكوري في استعادة السلطة بالقوة، إلا أن أهل أعمر ولد اعلي، رغم كل ذلك، ظلوا يتمتعون بوزن كبير وبمكانة قوية جعلت حضورهم في الإتاوات والإكرامات بارزا، بل ظلوا يرفضون التنازل عن نصيبهم تحت أي ظرف. في هذا السياق يظهر الشاب المختار ولد امحمد ولد اعلي الكوري الذي ترك له والده أمجادا داخلية، وعلاقات كبيرة خارجية، وأموالا طائلة في عاصمة المصالح الفرنسية الإفريقية: سان الويس.
لقد مات عنه والده وتركه يتيما، فتربى في سان الويس (اندر) حيث عقاره وأمواله، وحيث عايش الفرنسيين (وكان يتكلم الفرنسية بطلاقة، كما كان يلبس الزي الفرنسي بإتقان، ويضع ربطة العنق تماما مثلما يضعها الأوربيون). وقد وصفته وثائق المستعمر بأنه شاب وسيم ذو طباع حضرية راقية لا يتحلى بها أي بيظاني حينها.
وكان هذا الشاب، المولود بين 1810 و1815، يسعى لاسترداد السلطة على خطى والده امحمد ولد اعلي الكوري وأبناء عمومته أولاد أعمر ولد اعلي الذين لم يبق منهم أي بالغ عندما توفي آخر أمرائهم أعمر ولد المختار ولد أعمر ولد اعلي الملقب أعمر ولد كمبه. إلا أن جملة من الظروف لم تساعده في مسعاه، من بينها:
أولا: صغر سنه، فقد بحث عن الإمارة وهو بعد لم يبلغ الـ 18 من العمر.
ثانيا: تفكك القوة التي كانت تساند ذويه من أولاد أحمد بن دمان وأولاد دمان وأخواله إدوعيش الذين أتوا مرتين بخيلهم ورجلهم وقاتلوا في أقصى الجنوب، لكنهم فشلوا في استعادة الحكم لابن ابنتهم وإن انتصروا في إحدى المعركتين اللتين شاركوا فيها إلى جانب والده امحمد وأنصاره الدامانيين: معركة أفجار سنة 1817 ومعركة أباخ (الصطاره) في ذات السنة 1817.
ثالثا: ميول الفرنسيين إلى الأسرة الحاكمة الجديدة لاعتبارات من أهمها أن مصلحتهم تقتضي التعامل مع جهة واحدة وزعيم واحد، بالإضافة إلى ما استشفوا من قلة حظوظ الأسرة الأميرية الأولى في استرجاع عرشها.
رابعا: قبوله للتنازل عن المطالبة بالإمارة (لفقدان السند الداخلي والخارجي)، ورفضه المطلق البات للتنازل عن المصالح والإكرامات التي كانت من حق أجداده على ضفة النهر (كالإتاوات، والتعويضات عن توقف القوارب التجارية والمزايا المادية التي تمنحها سلطات سان الويس)، الأمر الذي شكل مساسا بهيبة الإمارة وبجزء من سلطاتها وبعض مصالحها الحيوية، فكان لابد لها أن "تتصرف" بشكل أو بآخر، خاصة أن الأمير الشاب يعتبر، وربما يعتبر بعض أبناء عمومته المباشرين، أن التنازل عن المزايا الخاصة بهم سيكون بمثابة التخلي عن جزء آخر من أمجادهم أو عن النصيب المتبقي من سيادتهم (بعد أن أجبرتهم الظروف على التخلي عن السلطة).
خامسا: المؤامرات الداخلية والشراك التي وضعت للشاب فوقع فيها دون أن يحسب عواقبها، ومن أبرزها عملية قتل التاجر جاك موليفار: صديق والده وصاحب المكانة الكبيرة لدى الفرنسيين، ما جعل فرنسا تعتبر أنها إن لم تقتل قاتله ستخسر هيبتها وسمعتها لدى سكان المنطقة، فكان لابد لها من استدراج الشاب إلى اندر لتجعل منه مثالا تروع وتردع به كل من يحاول المساس بمواطنيها وحلفائها. وعند القراءة المتأنية لما بين سطور الوثائق الفرنسية، نكتشف أن الإمارة شاركت في عملية الاستدراج تلك لأن الشاب أظهر قدرات فائقة على المنافسة، ولأنه ينبئ بمستقبل واعد قد يهدد أركانها ولربما تمكن، بحنكته وشجاعته وعلاقاته وثرائه المادي وما لديه من مقومات التفاهم مع الفرنسيين، من انتزاع السلطة وإعادة الإمارة إلى نسختها الأولى.
إذن قـُتل التاجر الخلاسي سنة 1831 على يد المختار ولد أمحمد ولد إعلي الكوري، أو على يد أبناء عمومته أولاد أعلي بوشارب، أو على يدهم جميعا (انطلاقا من شهادات مختلفة تم الإدلاء بها خلال جلسات المحاكمة المنعقدة في سان لويس سنة 1832)، أو قتل بحضور الشاب المختار وتمت فبركة التهمة لجره إلى المشنقة (فهو يحرج الإمارة لأنه يطالب بنصيب من الدخل، ويحرجها لأنه مهيأ لقيادة التناوب السياسي، ويحرج فرنسا لأنه يفرض إتاوات وإكرامات مضاعفة على اعتبار أنها تدفع نفس الإتاوات والإكرامات للإمارة، ويحرجها لأنه يشكل قطبا ثانيا، وفرنسا تعتبر أن مصالحها تقتضي التفاوض والتعاطي مع قطب واحد). وهكذا وجهت له التهمة، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ فيه الحكم رميا بالرصاص، ليكون بذلك أول بيظاني يحاكم محاكمة عصرية مكتملة الأركان: من رئيس محكمة، مرورا بالقضاة، فممثلي النيابة، إلى المحامين، والشهود، وبذلك يكون أيضا أول بيظاني يصدر عليه حكم بالإعدام وينفذ فيه رميا بالرصاص. علما بأن بعض أعضاء المحكمة أصيبوا بحزن شديد وإحباط كبير إثر تنفيذ الإعدام في الشاب المختار لأنه، بالنسبة لهم، أعدم على خلفية أحداث وقعت وهو بعد لم يصل سن البلوغ القانوني (كان سنة 1931 في حدود الـ 16 من العمر، وإن حاول رئيس المحكمة تقديم أدلة غير مؤصلة على أنه في حدود الـ 21 سنة)، كما يعتبره بعض الفرنسيين من أقرب البيظان إلى نمط حياتهم العصرية، وأنه يتكلم لغتهم بطلاقة، ويمكن التفاهم معه أكثر من غيره، بالإضافة إلى أنه ضحية لمؤامرة تروزية-فرنسية بشعة لم يفهم أبعادها لصغر سنه.
ومهما يكن، فإن ملفه يظل نقطة سوداء في جبين العدالة الفرنسية، سيجد، في يوم من الأيام، من يرفع اللبس عن قضيته ويفكك ألغازها وطلاسمها. كما سيظل مفخرة تروزية لأنه، وإن أنكر التهمة، رفض التنازل عن مصالح ذويه، ورفض المساومة في حقهم على المراسي والمراكز التجارية، ورفض الخضوع لسلطة لا تقبل به شريكا، وذهب إلى مكان الإعدام متماسكا بخطى واثقة حسب شهادات الفرنسيين أنفسهم.
محرر زاوية "تاريخ مغيّب"في صحيفة ناواكشوط
الحلقة الأولى من تفاصيل الملف حسب ترجمة الأستاذ سيدي ولد متالي
" حلقة من تاريخ السنغال" بقلم: آلفريد غيشون دو كِرانبونه...
النص الذي ننشره اليوم عبارة عن ترجمة لتقرير عن محاكمة للأمير التروزي المختار ولد امحمد ولد إعلي الكوري في سان لويس سنة 1832 على إثر اتهامه بمقتل التاجر الخُلاسي جاك موليفوار قبالة مدينة ريشارتول السنغالية في شهر يونيو 1831...
و قد لخص زميلي الدكتور سيد أحمد ولد الأمير تلك الحادثة في مقال سابق له تحت عنوان" مصارع الأوربيين في موريتانيا قبل دخول الاستعمار" بتاريخ 19 يناير 2014...
كما تحدث عنه الدكتور و الباحث الشهير محمد المختار ولد السعد في مقال له في مجلة مصادر الصادرة عن جامعة نواكشوط و جامعة أكس الفرنسية سنة 1995 تحت عنوان: " العلاقات الفرنسية ـ التروزية في فترة الاستعمار الزراعي"...
و أشار إليه بول مارتي في بعض كتاباته عن الاتفاقات الفرنسية ـ التروزية..
و اشتهر المختار في اتهيدينة " لوصاية" التي يخاطبه فيها الفنان الشاعر إعلي ولد مانو.. و التي نعتزم نشرها كاملة في آخر هذه الترجمة الكاملة التي سنحاولها لتقرير كِرانبونه.. عن هذه الحادثة...
و لتجنيب القارئ الكريم للملل و السأم فإننا سننشر هذه الترجمة على حلقات.. و ستظهر من خلالها مُجريات هذه المحاكمة و مرافعة المُحامي الفرنسي عن الأمير.. و آراء الشهود في جدلية السن القانونية للمتهم...
الترجمة...
يمثل هذا السرد أداء لأحد أتعس واجباتي المهنية إذ أنه يروي قصة إحدى ذكرياتي الحزينة..
..كان ذلك في شتاء 18322 عندما جئت مدينة سان لويس بالسنغال في السابع من أكتوبر لأمارس وظيفة مفتش عام في محكمة الاستئناف.. فكُلِفتُ لمدة ستة أسابيع من طرف الوالي "رينولت سان جرمان"، رئيس الفرقة... الذي يُعد من ألمع الرجال الذين عرفتهم و أبرزهم... فقد كان مثقفا، ذا رأي صائب، و ذا نخوة.. مع خبرته في إعمال بعض القسوة في الوقت المناسب...
كلفني بقوله: " قضية كبيرة و أساسية.. تتطلب كل عنايتك... تتطلب من الحذر ما تتطلبه من العزم و الحزم.. لقد اعتقلتُ في حي {كِت إندر} أميرا تروزيا متهما بالقتل و الحرْق... اقرأْ ـ أولاـ الرسالة التي بعث لي بها هذا الصباح.."
{ أخذتُ اقرأ الرسالة}
" هذه الرسالة صادرة عن المختار بن امحمد ولد إعلي الكوري إلى السيد الوالي " ألانه" و إلى جميع سكان سان لويس..
موجبه إعلامكم أنني أريد أن أكون في عافية معكم.. و أن أحافظ على صداقتنا التي كانت بين أسلافنا معكم..
لقد ظلمتموني باتهامكم لي بقتل انجاك ماليفوار.. و لم أكن أنتظر ذلك منكم.. فما فعلتموه لي لم أفعله لكم.. لو كنتُ أريد قتلكم لكنتُ فعلتها من قبلُ.. في ما يتعلق بإكرامياتي التي تمنعونها منذ سنتين.. أشير إلى أنكم لو أرغمتموني على كلامٍ سيئ فلن أجيبكم إلا بكلام طيب.. و إذا كنتُ أتصرف هكذا فلأني أعرف أن لكم عقلا و أنكم تعرفون لماذا أتصرف هكذا.. فإني لا أحب إلا العافية و إني أحبكم..
و كما أنه من المستحيل عليَ ان أتراجع عن اعتقادي في الله تبارك و تعالى.. فإنه من المستحيل عليَ أن أتراجع عن مطالبتي بإكرامياتي.. قد أضحي بأمرٍ آخر.. و لكن ليس بهذا..
و إن أراد أيٌ من أقاربي أن يسلبني ذلك الحق.. فإنني سأقتله..
و لا تحتسبوا أنني أطمح للسلم معكم لأنه ليس بمقدوري شيء آخر.. كلا.. ذلك لأنني فقط أحب العافية..
و بالنسبة لكم فقد قابلتموني بكل سوء بمنعكم لإكرامياتي منذ سنتين.. و ليس بمقدوركم أشنع من ذلك.. و ممتلكاتي ليست تحت أيديكم..
قيلَ لي إنه إذا اجتمع ترارزه سأمنح إكرامياتي..و كنتم التقيتم بهم في السابق..
و كل ما تقولونه لي دون منح إكرامياتي لا يهمُني.. و السلام.."
.. يستمر جرمانه قائلا: " المختار هذا يتطلع إلى أن يكون ملكا على رأس القبيلة البيضانية ـ ترارزه ـ الإمارة الأقرب من منطقتنا..
و قد جاءني رسوله بجوادٍ أصيلٍ و رددته عليه.. آمرا هذا البائس أن يبتعد إذا كان لا يحب أن يُعامل مُعاملة قاسية..
و قد كان منعُ إكرامياته كافيا لإرجاعه إلى وضعية مقلقة له.. و كان أجابني قبل قليلٍ هكذا:".. أيحكم هؤلاء البيض قبل أن يسمعوا... أريد أن أمثل أمام محكمتهم .. و أن يحاكموني.."
" لقد أصَبتُ في توقيفي له.. و هو مودعٌ في السجن.. اذهب إليه.. قابلْه.. قابل العمدة و رئيس المحكمة الابتدائية المكلف بالتحقيق..
لا تتسرعوا و لا تتباطؤوا تباطؤا مُخِلا..."
عندما ذهبتُ من عند الوالي كنتُ أحاول أن أسيطر على تأثري.. كان عمري إذذاك خمسا و عشرين سنة.. و كانت ذكريات بداياتي في قضاء {ديجونه} كفيلة بأن تجعلني أضطرب.. فقد منحتني إحساسا، متواضعا، بالرضى من الحصول على براءاتٍ أو التخفيف من أحكام في قضايا رديئة..
أتجاوز صفحات و أصل إلى الاستماع إلى مجلس الاستئناف...
كان أول من التقيته هو الملازم "دوسلانص " { قال لي}:
"... المسكين المختار.. أعرفه منذ عدة سنوات.. و لم أكن أنتظر {له} ـ أبدا ـ { مصيرا} كالمهمة التي كُلِفتُ بها هذا الصباح..
إنه يثِق في صفته الأميرية و صفته الملكية التي ينبغي أن تنأى به عن وضعية كهذه.. كان، و هو في منزل شيخ " إندر" ينتظر جوابا إيجابيا من الوالي.. حتى هرولت إليه إحدى النسوة و قالت له: " هنالك جنود يعبرون النهر.. قادمين لتوقيفك.." فأجابها بقوله: " ذلك قدَر الله"..
و برز مباشرة أمامنا حاملا معه قدحا مملوءا بالحليب.. فقدَمه إليَ مرحِبا بي..
و عندما رفضتُ التناول من القدح قال لي:" لماذا جئتم بهذا العدد الكبير.. لن أزيد على أن أتبعكم.. اذهبوا بي إلى الوالي..
بدا قليلٌ من الاستغراب على وجهه عندما علِم أن الأمر جاء مباشرو بإيداعه السجن.."
عمدة {إندر} الذي كان ينتظرني يقول: "إنه ليس من اللائق إيداع المختار السجن.. نظرا لإصابته بمرض في الصدر.. و لان الليالي بدأتْ تميل إلى البرودة.... أليس من الأوْلى حجزه في المستشفى؟"..
" .. بلى .. بالفعل.. و سأتباحث مع الرئيس في الموضوع..
سرد لي السيد " ألانه" الأحداث التي قادت إلى التوقيف قائلا: " ... بيد أنه { يعني المختار} كان يتظاهر بالإخلاص و المحاباة للسلطة العليا لم أكن على علمٍ أن قاعدة عريضة من السكان كانت تهتم به..." و أضاف قائلا: " لقد أثيرت إشكاليات هامة:
{ هل يُسمح للبيض بالمحاكمة؟ ، هل إن الجريمة وقعت على التراب الفرنسي؟ هل إن ما وقع جريمة أو عمل حربٍي؟ هل إن المختار وصل بالفعل السن القانونية لكي يكون مسؤولا عن تصرفاته؟..}
هذا فضلا عن أن أصدقاءه يأملون في سحبه من القضية تعاطفا معه و حفظا لسالف المودة بينهم مع أبيه و جده.. البطلين اللذين ماتا مقاتلين شريفين... هذا مع الخِشية من تداعيات سياسية في حالة عرقلة الإدانة مهما كان الحكم المُعلن..."
لم أستفد من زيارتي للرئيس " دو لاروك" إلا تبادلا للشروح حول بعض تفاصيل المسطرة الإجرائية..
يومان بعد ذلك أُحيل المختار إلى المستشفى حيث كان لي معه لقاء مطول لم يترك لي تأنيبا للضمير حول الواجب الذي ينبغي لي أداؤه...
حاولتُ عدة مرات أن أقنع الوالي بغسال هذا المسكين إلى فرنسا لمحاكمته هناك.. او إلى مُستعمرة أخرى.. و لكن دون جدوى...
تم استدعاء المجلس الاستشاري اليوم 177 ديسمبر من اجل عقد ثلاث جلسات مطولة للنقاش في الموضوع.. و سأعرض مراحلها الأساسية:
مثُل المتهم طليقا مصحوبا بدفاعه الرسمي السيد" تايل هاردات ـ فاييت".. ضابط الحالة المدنية في جزيرة " سان لويس".. يبدو أن سنه تتراوح بين 22 و 23 عاما... كانت خطواته ثابتة و بطيئة.. كان مع كلامه اللغة الفرنسية يرتدي الزي البيضاني..طلب أن يكون الحوار معه بلغته الأصلية..
تم استدعاء السيد "أوهارا" الذي يتقن اللغات الفرنسية و العربية و الولفية لأداء اليمين القانونية بوصفه ترجمانا للجلسة..
عندما سئل المتهم عن هويته أجاب بأنه يُدعى المختار بن محمد ولد إعلي الكوري.. و أنه من قبيلة بيضان ترارزه....... يتواصل