قصص بدون اسماء

ليلة السادس والعشرين من أكتوبر 1988، كانت ليلة رطبة باردة، مسكونة بالأشواق والحنين إلى وطن كان يرفض أن يغادرنا ونحن نغادره، اكتظت قاعة الركاب الوحيدة في مطار نواكشوط القديم المحاذي لبرج المراقبة، بعشرات الأجساد النحيلة المتوثبة لبداية رحلة أخرى من رحلات العمر،
كان الجميع في انتظار طائرة الخطوط الجوية الجزائرية القادمة من داكار والمتوجهة إلى الجزائر العاصمة، إنها دفعة 1988 إلى جامعات الجمهورية العربية السورية، لم تكن دفعة عادية، كانت أكثر عددا من كل الدفعات اللاتي سبقنها كما أن عام وصولها سيتصادف مع بداية صرف المنحة كاملة بالدولار وسنوات ترف ورخاء، سيحسد عليها الكثيرون طلاب القطر السوري،
وصلنا مطار هواري بومدين ذات صباح لفه ضباب كثيف قادم من جبال الأوراس البعيدة، كان علينا أن نستقل طائرة الخطوط السورية، من نوع بوينغ 727، التي مثلت جوهرة النقل الجوي في ثمانينات القرن المنصرم، وأنا أصعد السلم نحو الطائرة استوقفتني عبارات كتبت على باب الطائرة، " وحدة، حرية، اشتراكية"..."أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، وكان يتوسطها علما سورية وحزب البعث،
نحن أمة تحمل معها شعاراتها في حلها وترحالها حتى عندما نحلق نحو السماء، وبالمناسبة ما زلت أؤمن حتى اليوم بأن أكبر خيانة ارتكبها الرفاق بحق ميشيل عفلق، هي أنهم اعتبروا الحرية ترفا فكريا، ومنذ تلك اللحظة بدأ زمن الانحدار،
ما كادت الطائرة تستوي في الجو، حتى بدأنا نهبط من جديد نحو مطار هواري بومدين، قال لنا القبطان الشاب، إنهم عائدون لإصلاح عطل في الإطارات وستكون تلك بداية يوم طويل في الجزائر العاصمة،
وقت الظهيرة أخذونا إلى مطعم المطار، كان علينا أن نتكيف لأول مرة مع الخدمة الذاتية التي تقضي أن تأخذ صحنك وتملأه بنفسك، حتى أولئك الذين كانوا يتظاهرون منا بأن لديهم خبرة في الأمر، كانت تحصل معهم مفاجآت مضحكة...فضائح مجلجلة (بدون أسماء) ،
في المساء وبعدما تأكدوا أن إصلاح عطل الطائرة لن يتم قبل اليوم التالي، أخذونا إلى فندق تيبازا على ضفاف البحر الأبيض المتوسط وهناك ستحصل قصص أخرى مضحكة،
وضعوا كل اثنين منا في غرفة، وعندما أخبرونا أن طعام العشاء جاهز وأن علينا التوجه إلى المطعم، أغلق أحدنا الباب على زميله في الغرفة الذي كان في الحمام على ما يبدو،
ظل المسكين يخبط على الباب لوقت ليس بالقصير طلبا للنجدة، وعندما جاء عمال الفندق يسألون عن من منا أغلق الباب على زميله، صاح أحدنا ببراءة "يويلكم ذاك آن" وأسرع يفتح الباب عن صاحبه، واتانا المسكين وهو يتصبب عرقا، تفصله شعرة عن البكاء (بدون أسماء)،
القصة الأخرى هي "الشوربة" والطريقة التي كنا نحتسيها بها (دائما بدون أسماء) ، كانت أصواتنا تملأ أرجاء المطعم (بث مباشر) ، سأتذكر تلك الحادثة بعد ذلك وأنا استمع إلى عادل إمام في إحدى مسرحياته الكوميدية وهو يصف لصديقه الطريقة التي كان يتناول بها "الشوربة" قائلا : (صوتي واصل لميدان التحرير...)،
بعد ذلك بأعوام سيطوي النسيان ذكريات الرحلة الأولى ومشهدياتها المتعبة والمضحكة وسيصبح أصحاب تلك الوجوه البريئة التي أصابها الذهول في ذلك اليوم الطويل في مطار هواري بومدين، سيصبحون أطباء ودكاترة ومهندسين وأساتذة وصحفيين ومسؤولين كبارا،
وسأبقى أنا أصر كلما برقت في ذهني ومضة من ذلك الزمن الجميل أن أسجلها مهما ضاق الوقت ومهما خانني صبيب الذكريات أحيانا ومهما قالت لي زوجتي إن كثرة قصصي هي سبب خيبتي،
رحم الله أولئك الذين شاركوني تلك الرحلة الأولى إلى جلق الشام ثم رحلوا فجأة عن هذه الدنيا دون أن يتسنى لي أن أودعهم وأطال الله عمر البقية الباقية من جيلي، جيل النكسة،
جيل جميل، أعتز بالانتماء إليه.

من صفحة الكاتب والصحفي البشير عبد الرزاق في الفيس بوك