لم يكد غبار زوبعة نقاش وإقرار مشروع قانون التعديلات الدستورية على مستوى الجمعية الوطنية يخف، حتى نزلت "صاعقة" رفض مجلس الشيوخ لتلك التعديلات، دون رعد ولا برق؛ لتربك فولكلور احتفالات الموالاة بذاك النصر المبين...
صاعقة باغتت الجميع، معارضة وموالاة، لدرجة أن أشد الموالين اندفاعا في دعم تغيير الرموز الوطنية لم يجدوا وقتا ليضعوا أصابعهم في آذانهم، فطفقوا يتدافعون الاتهامات ويرمون أعضاء مجلس الشيوخ الذين سبقوا أكثرهم لركب النظام والتزلف للسلطة؛ بأنهم خونة، مرتشون وأنانيون، ودفعت برئيس الجمهورية إلى الخروج عن صمته عبر خرجة إعلامية جديدة لم تكن ضمن أجندته؛ زادت أزمة البلاد تعقيدا، وقادم تطوراتها غموضا، وأجهزت على أي أمل في التوصل إلى توافق وطني جامع يعيد ترميم ما هدمته السنوات العجاف من مقومات الثقة بين أطراف المشهد الوطني بجميع أطيافه ومكوناته.. خرجة بلغت قوة ارتدادها حد إحداث أخرى بوقع مشابه تقريبا؛ صدرت، أو استصدرت، من الرئيس السابق سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، الذي آثر الصمت واعتزال المعترك السياسي منذ توقيعه على اتفاق دكار، منتصف العام 2008.
لم يكن وقع الصاعقة بأخف على المعارضة منه على خصومها؛ إذ سارعت طلائعها، عند أول استفاقة، إلى اختزال نضالاتها التاريخية والمعاصرة، واحتجاجاتها المناوئة للسلطة والرافضة لأي مساس بأحكام الدستور، في موقف آني ما تزال دوافعه وملابساته تثير الكثير من علامات الاستفهام والتعجب؛ صادر عن مجموعة من شيوخ النظام ما قال أي منهم "لا" قط إلا في تشهده، أو للمعارضة وما قد يقرب إليها من موقف أوعمل...
ومن أبرز نتائج "لا" الشيوخ و"نعم" النواب، من قبلها، كونهما غطتا على الجدل الذي أثاره إعلان الرئيس محمد ولد عبد العزيز؛ عبر قناة "فرانس 24" التلفزيونية الفرنسية؛ نيته دعم مرشح يختاره لخلافته في رئاسيات 2019.. وما تلا ذلك الإعلان (المبكر) من سجال فكري وسياسي عبر وسائل الإعلام المرئية والإلكترونية، ومواقع التواصل الاجتماعي حول هوية "مرشح الرئيس" المنتظر، من جهات رسمية وشبه رسمية، روجت لفكرة استخلاف الفريق محمد ولد الشيخ الغزواني، قائد الأركان العامة للجيوش ورفيق درب الرئيس المشرفة ولايته الأخيرة على الانتهاء.
ولعل أكثر تلك التنبؤات لفتا للانتباه وإثارة للدهشة ما صدر عن بعض الموظفين الرسميين داخل القصر الرئاسي؛ إذ يستشف منه أحد أمرين لا ثالث لهما.. الأول تلقي المعنيين ضوء أخضر من سيدهم، أو إيعازا من المعني؛ والثاني أن يكون مجرد محاولة لإيهام الرأي العام بذلك لا أكثر، وفي كلتا الحالتين يستحيل نزع الصبغة الرسمية عن هذا الموقف ما دام صادرا عن موظف رسمي برئاسة الجمهورية؛ إلا بما يفنده ـ علنا ـ من جهة أعلى.
وفي ذات السياق يندرج الترويج، داخل بعض الأوساط القريبة من مركز القرار لإمكانية ترشيح الوزير الأمين العام لرئاسة الجمهورية، د. مولاي ولد محمد لقظف لخلافة الرئيس "وديا" ولو إلى حين.
في المقابل، تعمل أطراف داخل المعارضة المصنفة راديكالية، على الدفع بالرئيس الانتقالي السابق، علي ولد محمد فال ليكون مرشحها التوافقي في رئاسيات 2019؛ فيما تحاول أطراف أخرى إقناع تلك المعارضة بتبني ترشيح أحد قادتها السياسيين الأكثر اعتدالا من حيث الخطاب على الأقل، خاصة رئيس حزب اتحاد قوى التقدم، اليساري د. محمد ولد مولود للغرض ذاته.. ولكل من الطرفين حججه ومسوغاته التي لا تخلو، أحيانا، من بعض الوجاهة.
بيد أن حشر مرشح التوافق الوطني لدى الأغلبية الحاكمة والمعارضة غير المحاورة ـ على حد سواء ـ بين أصحاب الخلفية العسكرية وذوي المواقف الطيعة للسلطة هنا، والعصية عليها هناك، يجعل الحديث عن ضرورة إيجاد شخصية وطنية توافقية جامعة، في غير محله تماما..
ذلك أن اتساع الهوة بين السلطة والمعارضة، وانعدام الثقة كليا بينهما، والانسداد الذي وصلت إليه وضعية موريتانيا، سياسيا واجتماعيا على الأقل، يجعل من الملح أكثر من أي وقت مضى، البحث عن شخصية وطنية تملك من الخبرة والانفتاح والقبول ما يجعلها توافقية حقا؛ وهو ما يعني ـ بالضرورة ـ الابتعاد عن دائرتي القطبين التقليديين في المشهد السياسي الوطني؛ أي السلطة والمعارضة. ومن غير المستحيل، البتة، أن توجد في موريتانيا ـ على الأقل ـ شخصية وطنية توافقية قادرة على جمع الموريتانيين على اختلاف مشاربهم السياسية وخلفياتهم الفكرية والاجتماعية، تحظى بثقة أغلب أطياف الطبقة السياسية بمعسكريها الرئيسيين، وتطمئن لها المؤسسة العسكرية بما فيه الكفاية؛ وتبدد أية مخاوف، قائمة أو مفترضة، لدى النظام بجميع أركانه من المساءلة أو المضايقة؛ مع تأمين إشراك فعلي لكافة القوى السياسية والكفاءات الوطنية في إدارة، وتوجيه، وتسيير البلد بشكل توافقي وطني جامع؛ سبيلا إلى إخراجه من نفق المجهول، وإذابة غيوم الفرقة والخلافات العقيمة؛ السطحية في ظاهرها، والمدمرة في جوهرها ومآلاتها..على أن يخلو سجل مرشح التوافق الوطني لرئاسيات 2019 من غير الكفاءة المشهودة، والتجربة الناجحة في مجالي الإدارة والتسيير العام، بخلفية اقتصادية أكثر منها سياسية، وبعد وطني يتجاوز الخصوصيات الضيقة والهويات البدائية، ورؤية دبلوماسية واسعة الأفق، ثاقبة البصيرة، متزنة الطرح والتحليل.. مرشح يستند إلى برنامج إصلاحي شمولي مستدام، وفق رؤية نهضوية ذات أبعاد إقتصادية، إجتماعية وأمنية متكاملة، تأخذ في الحسبان إكراهات المدى القصير، وإستراتيجيات المديين المتوسط والبعيد.