لقد حكمت إمارة الترارزه أسرتان من عقب اعلي شنظوره ولد هدي ولد أحمد بن دامان. فبعد أحمد بن دامان، مؤسس الإمارة إثر معركة انتيتام سنة 1631 ، والمتوفى سنة 1636، تأمّر ابنه هدي ما بين 1636 و 1684، ثم تولى بعده الإمارة ابنه السيد ثم بعده اخوه أعمر آكجيل ليصل الحكم إلى اعلي شنظوره الذي تأمر من سنة 1703 إلى سنة 1726. وحسب محمد فال ولد بابه وولد أبو مدين فقد تأمر بعد اعلي شنظوره أخوه الشرقي ولد هدي، إلا أن المختار ولد حامدن وبول مارتي يحذفان الشرقي من لائحة أمراء الترارزه، علما بأن خلافة الشرقي لأخيه اعلي شنظوره، على شؤون الإمارة، خلال مقامه في المغرب بحثا عن السند ضد البراكنه، لا يرقى إليها الشك .
بعد اعلي شنظوره، بدأ عهد أهل أعمر ولد اعلي الذي تواصل لمدة 74 سنة (تزيد أو تنقص قليلا حسب الخلاف في تواريخ الوفيات). وقد تميزت إمارة أهل أعمر ولد اعلي بأمور كثيرة، من أهمها أنها لم تشهد انقلابا واحدا لا هادئا ولا دمويا، بل لم يمت من أمرائهم مقتولا غير واحد توفي في معارك خارجية (ضد تحالف بين إمارة البراكنه والدولة الألمامية)، كما أنها الإمارة الوحيدة التي لم تعتمد التوريث الأبوي (أي أن الإمارة وصلت من أعمر ولد اعلي إلى ابنه المختار، لكنها من عهد المختار تعاقبت بين الإخوة وأبناء العمومة (داخل أسرة أهل أعمر ولد اعلي) إلى أن تم الانقلاب على حكمهم.
أول من حكم من أسرة أهل أعمر ولد اعلي هو أعمر نفسه الذي مارس السلطة الأميرية ما بين 1726- 1756، تولى بعده الإمارة أبنه المختار ولد اعمر ولد اعلي الذي حكم ما بين 1756- 1771، وتولى بعده أخوه اعلي الكوري ولد أعمر ولد اعلي الذي حكم ما بين 1771- 1784 (قتله جيش المامي عبد القادر: أحد أمراء الدولة الدينية في فوتاتورو المتحالف مع إمارة البراكنه). تولى بعده الإمارة ابن أخيه محمد الجواد ولد المختار ولد أعمر، وذلك ما بين 1784- 1792، ثم تولى بعده الإمارة أخوه عاليت ولد المختار ولد أعمر في الفترة ما بين 1792- 1794، ثم تولاها بعده أخوه أعمر ولد المختار ولد أعمر ولد اعلي المعروف بـ"أعمر ولد كمبه" الذي حكم ما بين 1794- 1800، وتوفي في زهرة العمر دون أن يترك أي وريث بالغ من جميع أفراد أسرة أهل أعمر ولد اعلي.
ثم يصل الحكم، في انقلاب أبيض، إلى أهل المختار الشرقي الذين عـُـرفت إمارتهم بـ"إمارة أهل محمد لحبيب".، وكان أعمر ولد المختار ولد الشرقي ولد هدي أول من حكم منهم في الفترة ما بين 1800-1829.
وكان امحمد ولد اعلي الكوري ولد أعمر ولد اعلي أول بالغ من أسرة أهل أعمر ولد اعلي يقود معارضة مسلحة ضد حكم أعمر ولد المختار (ولد الشرقي)، فحاول، خلال أيام مشهودة، استرداد الحكم، واستنجد في سبيل ذلك بحلفاء من داخل قبيلته، ومن أبناء عمومتهم أولاد دمان، ومن أصهاره إدوعيش خاصة في عهد الأمير محمد ولد امحمد شين.
وتولى الإمارة بعد أعمر ولد المختار ابنه محمد لحبيب الذي حكم في الفترة ما بين 1829-1860، وقتل من قبل أبناء إخوته في محاولة انقلابية فاشلة، ليتولى الحكم من بعده ابنه سيدي ولد محمد لحبيب الذي تأمّر في الفترة ما بين 1860-1871 وسقط قتيلا في انقلاب دبره أخوه أحمد سالم (الأول) ولد محمد لحبيب. وقد عرفت فترة إمارة أحمد سالم، الممتدة لثلاث سنوات، مناوشات ومعارك طاحنة مع أخيه أعلي (ابن اجّمبت: ملكة الوالو) انتهت بقتل الأول في شهر مايو 1873، ليستتب الحكم لأخيه الأمير اعلي ولد محمد لحبيب الذي قتل سنة 1886 في انقلاب دبرته جماعة من أولاد أحمد بن دامان من ضمنها أبناء أخيه خاصة أحمد الديد (الأول) ولد سيدي ولد محمد لحبيب ومحمد فال ولد سيدي ولد محمد لحبيب. وهنا أخذ محمد فال ولد سيدي السلطة الأميرية سنة 1886 في جو مضطرب لم يشهد استقرارا حتى قتل بعد أربع سنوات (سنة 1890) على يد ابن عمه أحمد سالم (الثاني) ولد اعلي (الملقب بياده)، وقيل ان محمد فال تنازل عن الإمارة لعمه أعمر سالم قبل مقتله، وإن تأكد ذلك يكون أعمر سالم قد حكم من 1890 إلى حين مقتله في إحدى معارك الصراع على السلطة سنة 1893. ثم استتب الأمر للأمير أحمد سالم ولد اعلي (بيّاده) من 1893 حتى اغتيل سنة 1905 على يد جماعة يقودها أحمد الديد (الثاني) ولد محمد فال ولد سيدي ولد محمد لحبيب.
في هذه الفترة بالذات دخلت الإمارة في العهد الفرنسي، فتأمر أحمد سالم ولد ابراهيم السالم وأحمد الديد ولد محمد فال بالتزامن تقريبا، حتى توفي أحمد سالم سنة 1929، لتبقى الإمارة عند أحمد الديد ولد محمد فال ولد سيدي حتى يوم وفاته سنة 1944، ويرثها منه ابنه محمد فال (ولد عمير)، ثم تعود لعقب أحمد سالم ولد ابراهيم السالم (ممثلا أولا في احبيب ولد أحمد سالم).
في هذه الظروف، كانت المصالح الاقتصادية، المتمثلة في تجارة الصمغ وما تدره من ضرائب، وفي الإتاوات والإكرامات الممنوحة من قبل الفرنسيين والوسطاء التجاريين، قد طغت على كل الجوانب الأخرى، فتفكك، شيئا فشيئا، حلف أهل أعمر ولد اعلي تبعا لموازين القوة، وقلّ عددهم هم أنفسهم، ولم تنجح محاولات امحمد ولد اعلي الكوري في استعادة السلطة بالقوة، إلا أن أهل أعمر ولد اعلي، رغم كل ذلك، ظلوا يتمتعون بوزن كبير وبمكانة قوية جعلت حضورهم في الإتاوات والإكرامات بارزا، بل ظلوا يرفضون التنازل عن نصيبهم تحت أي ظرف. في هذا السياق يظهر الشاب المختار ولد امحمد ولد اعلي الكوري الذي ترك له والده أمجادا داخلية، وعلاقات كبيرة خارجية، وأموالا طائلة في عاصمة المصالح الفرنسية الإفريقية: سان الويس.
لقد مات عنه والده وتركه يتيما، فتربى في سان الويس (اندر) حيث عقاره وأمواله، وحيث عايش الفرنسيين (وكان يتكلم الفرنسية بطلاقة، كما كان يلبس الزي الفرنسي بإتقان، ويضع ربطة العنق تماما مثلما يضعها الأوربيون). وقد وصفته وثائق المستعمر بأنه شاب وسيم ذو طباع حضرية راقية لا يتحلى بها أي بيظاني حينها.
وكان هذا الشاب، المولود بين 1810 و1815، يسعى لاسترداد السلطة على خطى والده امحمد ولد اعلي الكوري وأبناء عمومته أولاد أعمر ولد اعلي الذين لم يبق منهم أي بالغ عندما توفي آخر أمرائهم أعمر ولد المختار ولد أعمر ولد اعلي الملقب أعمر ولد كمبه. إلا أن جملة من الظروف لم تساعده في مسعاه، من بينها:
أولا: صغر سنه، فقد بحث عن الإمارة وهو بعد لم يبلغ الـ 18 من العمر.
ثانيا: تفكك القوة التي كانت تساند ذويه من أولاد أحمد بن دمان وأولاد دمان وأخواله إدوعيش الذين أتوا مرتين بخيلهم ورجلهم وقاتلوا في أقصى الجنوب، لكنهم فشلوا في استعادة الحكم لابن ابنتهم وإن انتصروا في إحدى المعركتين اللتين شاركوا فيها إلى جانب والده امحمد وأنصاره الدامانيين: معركة أفجار سنة 1817 ومعركة أباخ (الصطاره) في ذات السنة 1817.
ثالثا: ميول الفرنسيين إلى الأسرة الحاكمة الجديدة لاعتبارات من أهمها أن مصلحتهم تقتضي التعامل مع جهة واحدة وزعيم واحد، بالإضافة إلى ما استشفوا من قلة حظوظ الأسرة الأميرية الأولى في استرجاع عرشها.
رابعا: قبوله للتنازل عن المطالبة بالإمارة (لفقدان السند الداخلي والخارجي)، ورفضه المطلق البات للتنازل عن المصالح والإكرامات التي كانت من حق أجداده على ضفة النهر (كالإتاوات، والتعويضات عن توقف القوارب التجارية والمزايا المادية التي تمنحها سلطات سان الويس)، الأمر الذي شكل مساسا بهيبة الإمارة وبجزء من سلطاتها وبعض مصالحها الحيوية، فكان لابد لها أن "تتصرف"بشكل أو بآخر، خاصة أن الأمير الشاب يعتبر، وربما يعتبر بعض أبناء عمومته المباشرين، أن التنازل عن المزايا الخاصة بهم سيكون بمثابة التخلي عن جزء آخر من أمجادهم أو عن النصيب المتبقي من سيادتهم (بعد أن أجبرتهم الظروف على التخلي عن السلطة).
خامسا: المؤامرات الداخلية والشراك التي وضعت للشاب فوقع فيها دون أن يحسب عواقبها، ومن أبرزها عملية قتل التاجر جاك موليفار: صديق والده وصاحب المكانة الكبيرة لدى الفرنسيين، ما جعل فرنسا تعتبر أنها إن لم تقتل قاتله ستخسر هيبتها وسمعتها لدى سكان المنطقة، فكان لابد لها من استدراج الشاب إلى اندر لتجعل منه مثالا تروع وتردع به كل من يحاول المساس بمواطنيها وحلفائها. وعند القراءة المتأنية لما بين سطور الوثائق الفرنسية، نكتشف أن الإمارة شاركت في عملية الاستدراج تلك لأن الشاب أظهر قدرات فائقة على المنافسة، ولأنه ينبئ بمستقبل واعد قد يهدد أركانها ولربما تمكن، بحنكته وشجاعته وعلاقاته وثرائه المادي وما لديه من مقومات التفاهم مع الفرنسيين، من انتزاع السلطة وإعادة الإمارة إلى نسختها الأولى.
إذن قـُتل التاجر الخلاسي سنة 1831 على يد المختار ولد أمحمد ولد إعلي الكوري، أو على يد أبناء عمومته أولاد أعلي بوشارب، أو على يدهم جميعا (انطلاقا من شهادات مختلفة تم الإدلاء بها خلال جلسات المحاكمة المنعقدة في سان لويس سنة 1832)، أو قتل بحضور الشاب المختار وتمت فبركة التهمة لجره إلى المشنقة (فهو يحرج الإمارة لأنه يطالب بنصيب من الدخل، ويحرجها لأنه مهيأ لقيادة التناوب السياسي، ويحرج فرنسا لأنه يفرض إتاوات وإكرامات مضاعفة على اعتبار أنها تدفع نفس الإتاوات والإكرامات للإمارة، ويحرجها لأنه يشكل قطبا ثانيا، وفرنسا تعتبر أن مصالحها تقتضي التفاوض والتعاطي مع قطب واحد). وهكذا وجهت له التهمة، وحكم عليه بالإعدام، ونفذ فيه الحكم رميا بالرصاص، ليكون بذلك أول بيظاني يحاكم محاكمة عصرية مكتملة الأركان: من رئيس محكمة، مرورا بالقضاة، فممثلي النيابة، إلى المحامين، والشهود، وبذلك يكون أيضا أول بيظاني يصدر عليه حكم بالإعدام وينفذ فيه رميا بالرصاص. علما بأن بعض أعضاء المحكمة أصيبوا بحزن شديد وإحباط كبير إثر تنفيذ الإعدام في الشاب المختار لأنه، بالنسبة لهم، أعدم على خلفية أحداث وقعت وهو بعد لم يصل سن البلوغ القانوني (كان سنة 1931 في حدود الـ 16 من العمر، وإن حاول رئيس المحكمة تقديم أدلة غير مؤصلة على أنه في حدود الـ 21 سنة)، كما يعتبره بعض الفرنسيين من أقرب البيظان إلى نمط حياتهم العصرية، وأنه يتكلم لغتهم بطلاقة، ويمكن التفاهم معه أكثر من غيره، بالإضافة إلى أنه ضحية لمؤامرة تروزية-فرنسية بشعة لم يفهم أبعادها لصغر سنه.
ومهما يكن، فإن ملفه يظل نقطة سوداء في جبين العدالة الفرنسية، سيجد، في يوم من الأيام، من يرفع اللبس عن قضيته ويفكك ألغازها وطلاسمها. كما سيظل مفخرة تروزية لأنه، وإن أنكر التهمة، رفض التنازل عن مصالح ذويه، ورفض المساومة في حقهم على المراسي والمراكز التجارية، ورفض الخضوع لسلطة لا تقبل به شريكا، وذهب إلى مكان الإعدام متماسكا بخطى واثقة حسب شهادات الفرنسيين أنفسهم.
محرر زاوية "تاريخ مغيّب"في صحيفة ناواكشوط
الحلقة الثامنة من تفاصيل الملف حسب ترجمة الأستاذ سيدي ولد متالي
... فهم أقوى تأثيرا من المختار.. الذي تعد أسرته أضعف ناصرا و أقل عددا من أسرتهم.. و لا تُقاس القوة لدى هذا الشعب بالسبق في الميلاد و إنما تقاس بالنفوذ و كثرة المناصرين..
فأمراء أولاد بوشارب الغاضبون من سجن أبيهم أصروا على الانتقام له.. و من هنا كونوا خطة للانتقام من كل {من التقوه} من " البيض".. { و يطلق البيضان مصطلح البيض على كل سكان السنغال}.. و هكذا خرجوا من أجل تنفيذ مشروعهم الكارثي.. و شاءت الأقدار أن يلتقوا المختار و هو في نزهة خارج حيِه.. فتحدثوا معه .. و اقترحوا عليه أن يرافقهم..و لكنه رفض عندما عرف هدفهم.. { فأرغموه على ذلك} حتى خرج معهم مُكرها لا بطلا..
استطاع المختار أن يبعد مرافقيه من المراسي التي يبسط نفوذه عليها.. فسلكوا ضفة النهر.. و كان يحتسب أنهم لن يلقوا أحدا.. و لكنه لم يكن على صواب.. فجأة.. شاهدوا باخرة تلقي مرساها.. فتقدم إليها المختار.. من أجل إنقاذ صاحبها المحتمل.. فتبين أنه جاك ماليفوار.. و كان ماليفوار صديق والده..فحياه و طلب منه بعض التبغ و غطاء كان معه.. و في تلك الأثناء كان يغمزه حتى ينسحب عن المكان.. لم يفهمه ماليفوار.. عند ذلك سمع أبناء بوشارب، و هم خلفه، يحتجون على عدم إطلاقه النار.. فأوعز إلى أحدهم أن أطلق النار... و هو ما أجاب عليه أحدهم بقوله: " أطلق أنت النار أولا..." و هذا ما أكده الشاهد " باتيي فاري" أمام المحكمة.. و هي شهادة لها من الأهمية ما لا ينبغي أن يجعلها تفوت عليكم... عند ذلك كان المختار، الذي خشي على حياته، مُرغما على إطلاق النار..
و لكنه وجه طلقته بطريقة لا يصيب بها ماليفوار.. فأطلق أحد أبناء بوشارب النار بعد ذلك و قتل ماليفوار..
هذا، سادتي، عن سرد الوقائع.. و سآخذ الآن في تحليلها...
لقد أجمع كل الشهود على أن المختار عندما أطلق النار على ماليفوار أدار دابته نصف دورة.. و لكن ليس ممكنا، حسب هذا الزعم، أنه كان قادرا على التسديد أثناء هذه الحركة...لأن الفارس لا بد له أن يجعل دابته في حالة استراحة من أجل أن يُسدد..{ لأنه في هذه الحالة لا بد من استخدام اليدين معا} .. و هو ما لا يتأتى له إذا كان الجواد متحركا... فإذا كنتَ متوقفا فإنه من المستحيل أن تخطئ رجلا على بعد خطوتين منك.. و إذا كان الجواد متحركا.. فإن المختار لا يستطيع أن يسدد.. و في الحالتين فإن المتهم لم تكن لديه نية قتل ماليفوار الذي كان على مسافة قريبة منه.. و لأن الرمية الثانية التي كانت على أبعد بخطوات من رمية المختار هي التي أصابت ماليفوار... و هي طلقة ولد بوشارب...
و ردا على ما قاله الاتهام... كيف تتصورون أن تميمة كان ماليفوار يحملها تحطمت و تتمزق ثيابه الداخلية بمفعول طلقة نار؟ فأقول إن وسائل الإقناع ،هنا، هزيلة.. فالتميمة و الثياب الخارجية لم تكن ماثلة.. فليس من المنطقي أن نؤكد أن هذا التمزيق كان بمفعول طلقة نار.. أو لسببٍ آخر.. و تعرفون جيدا أن ذات النتائج قد تحدث لأسباب أخرى مختلفة...
فهؤلاء الشهود المصابون بالرهبة القوية و الذين صرحوا بذلك، و هم من شاهدوا ما حدث أمام أعينهم.. كيف لهم أن يشهدوا على تكسير التميمة و تمزيق الثياب؟ فشهادتهم لا يمكن أن تكون لصالح الادعاء... و هلا شهدوا على الأحداث الأخرى التي جرت من قبلً؟ فكيف أغضى الشهود عن ذلك أم كيف نسوه؟ قد أقبل هذا القول مؤقتا.. و لكن.. هل جاءت الطلقة من قُبُلٍ أو من جانبٍ؟ فليس من المعقول أن تبطل طلقة نار من هذه المسافة بمفعول تميمة معلقة على الصدر أو على البطن.. و تخترق اللحم، بالضرورة.. و إذا كانت من الجانب فإن الطلقة التي كسرت التميمة لم تُلامس الجسد.. و التميمة التي اتخذت اتجاه الرمية لم تصطدم بالجسم أو تحدث آفة فيه.. إذا.. فلا يمكن أن يوجد انتفاخ أو احتراق، كما يزعم الشهود... و هكذا، سادتي، فوسيلة الإقناع غير موجودة أو هي، على الأقل، مشكوك فيها...
مع العلم أنه إذا وجد شك فلا سماح بالخطإ.. لأن القانون ينص على أن الشك ينقلب يقينا لصالح المتهم... و ليس من حقنا أن نكون أقسى من القانون...
آمل أن أكون قد أقنعتكم أن المختار بريء من نية القتل التي يتهم بها.. و التي يقال، بدون جدوى، إنها نية ظاهرة... فهل نسيتم أن المختار لم يكن له شيء ينتقم له أو شخص ينتقم له.. و أنه لم يكن مدفوعا للقتل بأمل إحداث حربٍ لكي يستعيد ملكه.. لأنه لا هدف له في حرب مع أمراء أقوى منه.. و لهم مناصرون أكثر من مناصريه... و لا هدف له في عزل مَلك هو وريثه من أجل الاستيلاء على مُلْك فقده.. لأن أبناء بوشارب المنتصرين يريدون الاحتفاظ بالملك لأحدهم.. و هذا يبرهن على أن المختار إذا كان حضر مقتل ماليفوار فهو مدفوع بالقوة.. و لكنها قوة معنوية.. و هذه تفوق القوة المادية...
و أن هذه الأفعال خارجة عن نيته.. و لكنها جاءت بدافع هذه القوة المعنوية.. و أنه ما دامت النية مفقودة فليست هنالك جريمة.. و أتجاوز الآن إلى التهمة الثانية و هي مهاجمة سفينة مافال.. و الذي تلته جريمة قتل.. لقد فحصتُ بدون جدوى الإشهاد المكتوب و أصغيت بانتباه للشهود الذين صرحوا أمامكم.. و ما زلتُ أتساءل هل يمكن أن يتهم المختار في هذه القضية...
ما ذا؟ أيها السادة.. ليس هنالك أي شاهد أقر بمعرفة المختار.. و لا أي شاهد أقر أنه رآه... و إلا فإنني نسيتُ: ليس هنالك شاهد واحد.. و لا شاهد واحد فقط.. لأنه لم يحضر.. و بالتالي فلا تمكننا مواجهته مع المتهم.. قال إنه سمع لدى البيضان قولهم إن المختار كان حاضرا.. و بالتالي فإن أبناء بوشارب سيكونون وحدهم المسؤولين عن هذه الجرائم التي تعود إلى دافع انتقامهم... و مع ذلك يريدون أن يكون المختار مذنبا فيها... فلا بد من براهين.. و براهين واضحة أمام العدالة.. فإذا كانت الافتراضات تقوم مقام الحجج فأين يكون الضمان للفرد... ألا نرتجف كل لحظة لوجود قرينة بسيطة و غير صادقة تجرنا إلى قفص الاتهام... من أجل أن ندان إدانة واهية...
لا.. يا سادتي، فليس ذلك و لن يكون ذلك ما أراده المشرع.. بل أراد على العكس أن تكون هنالك براهين واضحة و دقيقة من أجل إدانة المتهم.. أراد المشرع أن يكون القانون حاميا للمتهم.. و ألا يكون اعتباطيا بالنسبة له.. و أن يجد فيه ملجأ حتى في أقسى حالاته...
إنكم لاحظتم، مثلي، أن المختار لم يكن و لن يكون من بين مرتكبي الجريمة التي يتهم بها.. و أنه إذا كان من بين مرتكبيها فليس هو، على الأقل، المدبر لها... لأنه، و كان ليَ الشرف أن أقولها لكم من قبلُ، كان مدفوعا بالعنف المعنوي الممارس عليه من قِبلِ أبناء بوشارب فلم يحضر إلا بدافع الدفاع عن النفس.. و من أجل التخلص من التهديدات التي توجه له.. و هكذا فإن أبناء بوشارب هم وحدهم المسؤولون عن مقتل مافال و عن مقتل ماليفوار.. و هم وحدهم من قاموا بالجرائم.. و هم وحدهم من يعاقبون عليها...
و الآن، أيها السادة، أصل إلى إشكالية السن..و أبدأُ من ذلك بفحص شهادات الشهود... فالشهود الذين قدمهم المتهم، كانون كلهم، باستثناء اثنين مجمعين أنهم سمعوا من امحمد ولد إعلي الكوري أو من وزيره آليزو أو لدى{ رواد} المراسي أن المختار ولد في ذات السنة التي كانت فيها معركة انتيمركاي... و هي التي دارت رحاها سنة 1816 .. فقد كان منهم الإجماع على هذه النقطة..
و من بين الثلاثة الآخرين أحدهم و هو بيير موسى الذي صرح أنه في شهر يونيو من سنة 1816 كان المختار لا يزال رضيع ثدي أمه.. و البيضانيان الآخران أحمد و محمدا فقد صرح أحدهما أن المختار وُلِد بشهر واحد قبل معركة انتيمركاي.. و أنه رآه عند ذلك.. و صرح الآخر أنه رآه في ذات الفترة و كان، بالكاد، قد وُلد.. فهذه الشهادات تبدو لي حاسمة.. أيها السادة، و تبدو الشهادات المعاكسة لها و التي تعتمد عليها النيابة واهية أمامها..
و بالفعل.. فمن بين الخمسة عشر شاهدا هنالك تسعة لم يحددوا أية حادثة.. و لم يشهدوا إلا على السن التي يظهر لهم أنها كانت للمتهم في مراحل مختلفة من رؤيتهم له.. مما يجعل عمره اليوم ما بين 18 و 20 سنة.. بينما أفاد شهود ستة آخرون أن سنه كانت تبدو لهم في ذات الفترة أصغر من ذلك..
و انطلاقا من هذه الشهادات، سادتي، أظن، جازما، أن المختار وُلد في السنة التي كانت فيها معركة انتيمركاي التي كانت سنة 1816 .. و إن كان ذلك في الشهر الأول من هذه السنة فإنه لم يبلغ حتى الآن سبع عشرة سنة.. أي أنه في الفترة التي وقعت فيها الجريمة { يوليو1831 } لم يكن عمره يتجاوز 16 سنة.. فإذا كان هنالك اشتباه حول قامته أو ملامحه أو قضايا أخرى عالقة.. استمعوا إلى ما يقوله بهذا الشأن بعض مشاهير الأطباء...
استشهادات
................................................................................................................................................
فمن خلال ذلك.. ألا تبدو جميع أنواع الشك مدحوضة .. و ألم يبرهن على أن عمر المختار قد حُدِدَ بدقة..
و قد تتبعتُ التهم في كل تفاصيلها و أرجو أن أكون قد رسمتُ أمامكم، بطريقة أكيدة، براءة المتهم.. مع أنه إذا كانت بقيت علي دلائل لم أسُقها فإنني أعول فيها، دون وجلٍ، على حكمتكم مقتنعا أنها ستجد سبيلها إلى ضمائركم الحية.. و أن تتيقنوا أنه إذا كان هنالك نقص فإنما هو من النسيان الذي لا نية لي فيه..
و أشير أنه إذا قبِلت المحكمة ذلك قد أعود في ردي لأعوض ما فات من النقص و أجيب على ذلك بكل سرور.....
يتواصل...ِ