موريتانيا: هل انقلب فريق الحكم على الرئيس؟!

يكاد ينعقد اليوم شبه إجماع على أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز فقد الكثير من بريقه وانسحب شيئا فشيئا من المشهدين الوطني والإقليمي لدرجة أن موريتانيين كثر لم يعودوا قادرين على التعرف على الرئيس الذي انتخبوه لمرتين والذي أثار لدى الكثيرين من بينهم آمالا واسعة بإمكانية قيادة فعل تغييري من شأنه الرفع من مستوى إدارة الشأن العام.

في بداية مأموريته الأولى، ونتيجة لما كشف عنه من حيوية وحس مبادرة وجسارة، لقبته إحدى الصحف الاقليمية الواسعة الانتشار ب "نابليون الساحل".

واليوم تنقلب الصورة تماماً ليس على المستوى الاقليمي فقط وإنما على المستوى الداخلي ليبدو الرئيس أمام الرأي العام وكأنه لم يعد له من الأمر شيء، بل الأسوأ من ذلك أن الصورة التي يتلقاها الرأي العام تظهر الرئيس كما لو كان قد قرر بكامل إرادته التفرج على تدمير صورته السابقة وتحطيم كل المكتسبات التي تحققت في عهده.

خارجيا يبدو الرئيس محاصرا بخصوم مصممين على هدم كل ما بناه من علاقات ومن تصورات ورؤى، لدرجة أنه برحيل يحي جامي مرغما من السلطة يكون ولد عبد العزيز قد فقد آخر حلفائه في شبه المنطقة.

وداخليا يشتد الحصار شيئا فشيئا على الرئيس من طرف ما يعرف ب"فريق الحكم" لدرجة أن الحضور القوي و"ردات الفعل" التي ميزت مأمورية الرئيس الأولى قد تلاشت بقدرة قادر، بعد أن أصبحت مختلف الملفات تدار من طرف "الفريق الحاكم" واقتصر دور الرئيس على توقيع المراسيم أو الاعلان عن قرارات أعدت له سلفا.

دعونا نخرج من التصورات النظرية لنأخذ المثال التالي: منذ أكثر من سنة وقوى الأغلبية بما فيها القوى المنتسبة للاتحاد من أجل الجمهورية تشهد استياء وغليانا وتحللا وتمزقا، خرج عن طور السرية وأصبح ملموسا في كل مكان وتطور شيئا فشيئا إلى أن تجسد -حتى الآن- في رفض مجلس الشيوخ للتعديلات الدستورية ويهدد بأن يقود إلى ما هو أسوأ أي إلى انفجار كارثي في الموالاة من شأنه ترك السلطة القائمة تواجه مصيرها معزولة خلال الاستحقاقات الانتخابية القادمة.

كيف كان رد فعل الرئيس على هذه الأزمة؟ وهل جاء متناسبا مع خطورة وضع يهدد بنسف كل المصداقية التي بناها خلال سنوات حكمه، بل بإخراجه من السلطة بطريقة مهينة مع كل التبعات التي قد تنجر عن ذلك؟

أوزار فريق الحكم

تصوروا أن أول قرار يتخذه الرئيس بعد "ثورة الشيوخ" هو القيام بخرجة إعلامية! وما أدراكم ما هو المغزى السياسي للخرجة الإعلامية؟ فبدل أن تتحمل جهة أخرى المسؤولية عن فشل تسيير العلاقة مع الأغلبية، ظهر الرئيس ليتحمل هذه المسؤولية بنفسه والأسوأ من ذلك ليدخل بصفة شخصية في مواجهة مع الشيوخ من خلال اتهامهم بهذه الصفة أو تلك، وهو ما يعني بلغة السياسة أن الرئيس الذي كان ينظر إليه داخل الأغلبية على أنه حكم بين الأجنحة المتصارعة قد تحول إلى طرف، بل قد انحاز إلى "الطرف" المسؤول في أعين الكثيرين عن وصول الأوضاع إلى ما آلت إليه!

كما أنه يعني أيضا –بنفس اللغة- أن باب الحوار قد سد ليس في وجه المعارضة فقط وإنما في وجه جميع قوى الأغلبية المستاءة بما في ذلك الشيوخ الذين سيكون عليهم بعد "الخرجة الإعلامية الاختيار بين أمرين: فإما أن يعودوا مستسلمين حتى لا نقول "صاغرين" إلى أحضان سلطتهم لتفعل بهم ما تشاء وإما أن يتحملوا تبعات تصنيفهم في خانة المتمردين والمغضوب عليهم.

كما تعني "الخرجة الإعلامية في أحد أبعادها أن مؤسسة الرئاسة قد دخلت في صراع مع مؤسسة مجلس الشيوخ، أي أن الرئاسة كشفت بشكل علني عن أن المنطق الذي يقود تفكيرها بعد التصويت المناوئ للشيوخ هو معاقبة هذه المؤسسة الدستورية على "الجريمة الأخلاقية" التي ارتكبتها.

وهذا المنطق "فوق القانوني"، بالإضافة إلى كونه يضع المؤسسات الدستورية في مواجهة بعضها البعض بدل المحافظة على استمرار التعاون فيما بينها، فإنه يؤسس لمرحلة ما يمكن أن يطلق عليه "الارهاب المؤسساتي" الذي يتيح للرئاسة فرض وجهة نظرها على المؤسسات التي وجدت أصلا للحد من سلطاتها!

خطورة هذا "الارهاب المؤسساتي" أنه لا يتوقف فقط عند حدود مجلس الشيوخ –الموجود ضمن مساحة الرئاسة- بل يتجاوز جدار القصر ليصل إلى المجلس الدستوري المجاور من خلال التلويح بأنه غير معني بالنظر في مدى دستورية "مرسوم الاستفتاء" الذي ما كاد يستصدر شرعيته من المادة 38 من الدستور حتى تحول فجأة -على أيدي سدنة التأويل- إلى "عمل من أعمال السيادة" لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!

صور جماعية لفريق الحكم

 

 

 

ما كادت ألسنة لهب الخرجة الإعلامية تتمدد خارج أسوار القصر الرمادي، حتى سقط القرار الثاني للرئيس متمثلا هذه المرة في إنجاز عمل وطني جبار: إعلان المصالحة بين أعضاء فريق الحكم! في هذا الوقت الذي يتعمق فيه شقاء الشعب وتتسع الهوة ما بين مكوناته وتصعد فيه المعارضة من لهجتها وتضاعف جهودها وتعمل فيه الأوساط العريضة من الأغلبية على لفت الانتباه إلى أن الأوضاع ليست على ما يرام، لا يجد الرئيس ما يقوم به أفضل من إعلان المصالحة بين عدد من أعوانه!

تعني المصالحة بين فريق الحكم تبادل زيارات مجاملة لتناول كؤوس الشاي وتنظيم أماسي باذخة والتقاط عدد من الصور التذكارية، لكنها تعني بشكل أوضح أن الرئيس يقول للشعب: كل ما في الجعبة هو هذا الفريق فعليكم أن تتحملوه طالما تحملتموني! ويقول لأغلبيته بشكل خاص: لقد اخترت فريقي وانتهى الأمر!

مشكلة هذه المصالحة ليست في أنها تساوي بين الرئيس وفريق حكمه، بحيث أنه بعد تحمل الرئيس لكامل المسؤوليات، يتنازل فريق الحكم ليظهر في صورة جماعية معلنا للرأي العام أنه "يتضامن مع الرئيس في تحمل جزء من المسؤولية"، بل أيضا في أن هذه المصالحة مجرد خدعة استعراضية، بالنظر إلى أن الصراع بين "الفريق الحاكم" هو صراع وجود يتجاوز الرئيس لأنه صراع على تركته. والقاعدة تقضي بأن الوارث حين يموت قبل الموروث لا يكون له نصيب من التركة، فأي من أعضاء الفريق سيقبل بالحكم على نفسه بالموت قبل أن يفارق الموروث الحياة؟ أم ترى الرئيس يتصور بأن الفريق سيقدم على انتحار جماعي لمصلحة من بات بالنسبة لهم على هامش الفعل السياسي؟

أقوى الأسباب أضعفها

يقول أحد الأمثال "البيظانية" بأن "السبه أقواها أضعفها"، ويبدو أن الموريتانيين باتوا على موعد مع التأكد من صدقية هذا المثل وهم يراقبون القرار الثالث الذي اتخذه الرئيس لمواجهة تداعيات أزمة التعديلات الدستورية، ذلك القرار المتمثل في إعادة نفخ الروح في حزب الاتحاد من أجل الجمهورية وتكليفه بقيادة معركة الحملة الانتخابية لصالح الاستفتاء الدستوري!

هذا الحزب "الموضوع على الرف" منذ سنوات والذي لا يتوفر لا على هيئات قاعدية ولا قيادية والمسؤول في أعين قوى الموالاة عن سوء الأوضاع وتفاقمها، يستدعى فجأة لتسند إليه مهمة إنجاح استفتاء تتضافر عشرات العوامل لتجعل نجاحه أقرب إلى المستحيل!

لا أحد يصدق أن أي رئيس يستطيع في ظروف مماثلة، أن يتخذ قرارا مماثلا حين يكون جادا في كسب تأييد الناخبين للمشروع الذي سيتقدم به إليهم، ذلك أن أضعف الايمان في مثل هذه الحالة هو إدخال تحسينات ولو طفيفة على "الهيئة القيادية" للحزب التي تعطي الانطباع بأنها تجتمع وتتخذ القرارات والتي تضم في صفوفها أشخاصا لا يتبادلون التحية وآخرين فاقدين لأدنى مستويات الكفاءة والخبرة السياسية!

ويصعب فهم هذا القرار خارج أمرين: فإما أن يكون الوضع في المستويات العليا للبناء السلطوي قد أصبح مهترئا بدرجة لم تعد تسمح بلمس أي جزء من أجزائه حتى لا ينهار البناء، وإما أن يكون فريق الحكم قد نجح تكتيكيا في إطار التسويات الداخلية فيما بين أجنحته في التوافق على كلمة سر واحدة تصور للرئيس أي تغيير في فريقه –في هذا الظرف- سينظر إليه على أنه نوع من الاعتراف بالهزيمة يستغله الخصوم لمصلحتهم.

وفي كلتا الحالتين يكون الفريق هو من بات يتحكم في كل الأوراق في انتظار لحظة الصفر!..

وفي انتظار تلك اللحظة يمكن للرئيس أن يستمر في إعطاء الانطباع بأنه المتحكم في كل شيء حتى بعد انقضاء مأموريته، وأن يهتم بالأمور الثانوية مثل عدد الأوراق المستخدمة في بعض الادارات والقيام بزيارات "مفاجئة" لبعض المرافق وبجولات داخل البلاد وخارجها وأخذ عطلة هنا وهناك، كما يمكنه التأكيد في كل مرة على أنه ليس ديغول ولا ابينوشيه ولا حتى بوتين، غير أنه لا مانع من أن يجد نفسه يوما ما في وضعية "جورباتشيف" حين نام ذات ليلة وهو رئيس لثاني أقوى دولة في العالم ليستقظ وقد أصبح عاطلا عن العمل، قبل أن ينتهي به المطاف مروجا من الدرجة الرابعة لأطباق البيتزا!.

 

السفير