فى نهاية العقد الأخير من القرن الماضي، كان إطلاق تسمية “المنتبذ القصي” على موريتانيا لا ينطوي على كثير من المبالغة إذ كانت المدن الموريتانية، بما فيها العاصمة نواكشوط، تفتقر إلى خدمات الهاتف المحمول والإنترنت، وهذا ما يجعل الموريتانيين معزولين نسبياً عن العالم. لكنّ خدمة الإنترنت التي دخلت إلى البلاد عام 1997 بدأت تنتشر بوتيرة سريعة بفضل دخول شركات اتصال تتنافس في اكتساب العملاء مستفيدة من رغبة الموريتانيين العميقة في اكتشاف هذا العالم الجديد الذي أصبح يؤثر على أدق تفاصيل حياة الفرد والمجتمع في موريتانيا. القادم الجديد عام 1996، أطلقت موريتانيا النطاق الخاص بها على الشبكة العنكبوتية “mr”، وحتى عام 1997 كانت شركة توب تكنولوجي الوحيدة التي تتوفر على الإنترنت. إلا أنّ عام 1998 شهد ظهور الواجهة الموريتانية على الإنترنتhttp://ift.tt/1zfXdoY لتكون أول موقع إلكتروني موريتاني. وفي العام التالي، دخلت العاصمة نواكشوط إلى الشبكة العالمية وعرف الموريتانيون مقاهي الإنترنت. وعام 2001، تمّ الإعلان عن ربط 12 منطقة في موريتانيا بشبكة الإنترنت. فراحت المقاهي تنتشر شيئاً فشيئاً في أحياء العاصمة، بدءاً بحي تفرغ زينة الرّاقي شمال العاصمة، الذي تجاوز عدد فضاءات الإنترنت فيه عام 2003 الـ15 مقهى. خلال هذه الفترة، ظل استخدام الإنترنت مقتصراً على أصحاب الدخل المرتفع نظراً إلى أسعار الخدمات الباهظة، إذ كان ثمن الساعة الواحدة من الإنترنت 500 أوقية (حوالى 2.50 دولارين). ومع دخول شركات جديدة إلى سوق الاتصالات الموريتانية ومنح رخص لمشغلي خدمات الإنترنت والهواتف المحمولة، انتهى احتكار الشركة الموريتانية للاتصالات (موريتل) للإنترنت، ودخلت شركتا ماتل وشنقيتل عام 2006 لتحتدم المنافسة وتنخفض الأسعار نسبياً، الأمر الذي سمح للموريتانيين على اختلاف مستوياتهم الاقتصادية بالنفاذ إلى عالم الإنترنت. الانقلاب على إعلام السلطة حتى ذلك الحين، كانت السلطات الحاكمة في موريتانيا تستأثر بوسائل الإعلام المرئية والمسموعة وتكرسّها للعب دور “النّاطق الرسمي” مستبعدةً أي رأي معارض لتوجهاتها، وهذا ما حث الحركات والأحزاب المعارضة في موريتانيا على اعتماد الإنترنت وسيلة إعلامها الخاص ومنبرها. فأخذ المعارضون يضاعفون حملاتهم عبر الإنترنت للدفاع عن آرائهم السياسية وإطلاع الرأي العام المحليّ عليها، خصوصاً أنّ سياسات التعتيم ومصادرة الصّحف بل إغلاقها، التي كانت تنتهجها السلطات لم تعد تجدي نفعاً في عصر الإنترنت. فشكّل الإنترنت وسيلة لتواصل معارضي المنفى مع الموريتانيين في الداخل، وحرصت الأحزاب السيّاسية على إطلاق مواقع إلكترونية تواكب الأحداث السياسية الجارية، واستحدثت أكبر منسقية المعارضة الديمقراطية صفحة باسمها على فيسبوك. وبعد إطاحة نظام الرئيس ولد الطايع، قرّرت السلطات الجديدة تحرير الفضاء السمعي البصري، فتعززت مكتسبات حرية التعبير. وكان مستخدمو الإنترنت أول المستفيدين، فاتخذوا من المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما فيسبوك، أداة للتعبير عن المشاكل الاجتماعية والآراء السياسية والمطالب النقابية. وتطور نشاط التدوين الإلكتروني، حتى فرض المدونون الموريتانيون أنفسهم على المشهد السياسي والثقافي والإعلامي في البلاد، فانتقل الجدل من قاعات البرلمان ومقارّ الأحزاب والصالونات إلى صفحات التواصل الاجتماعي. الإنترنت والهوية الموريتانية تحول الإنترنت إلى محرّك للشّارع مع اندلاع الحركات الاحتجاجية في بلدان الربيع العربي. وأعلن شباب موريتانيون على مواقع التواصل الاجتماعي ميلاد حركة 25 فبراير المطالبة بتحسين الظروف المعيشية وتغيير النظام. ثم تأسست حركات اجتماعية وشبابية عبر مئات الصفحات والحسابات الشخصية التي تساهم في تشكيل الرأي العام وفي تغذية الحراك الاجتماعي والسيّاسي في البلاد، مضطلعةً بدور الصّحافة البديلة ومنافسة للصحافة التقليدية لا سيما مع ارتفاع شعبية وسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت في إعادة النظر في كثير من المسلّمات التقليدية في البلاد، على الصعيد الاجتماعي والفكري والسيّاسي. وبرز مدونون كرسّوا عملهم للسخرية من أسلوب الحياة العامة في البلاد، لعل أشهرهم “جاميكا البيظاني” الذي فتح حساباً ساخراً على فيسبوك يحاول من خلاله المساهمة في تغيير العقليات الاجتماعية وينتقد بأسلوب خاص جملة من العادات والأعراف المنتشرة في البلاد (أغلق لاحقاً). يقول لرصيف22 “عندما يكتشف الموريتاني أن تصرفاته المتخلّفة تعتبر مثاراً للسخرية والضحك، فإنه قد يتوقف عن مثل هذه التصرفات أو يراجعها على الأقل”. ويرى أن “الإنترنت قد غيّر الكثير في حياة الموريتانيين، وسيتضاعف تأثيره في السنوات العشر المقبلة”. تغييرات بدأت تظهر بين الحين والآخر منذ أن أثار فيديو غنائي موريتاني على موقع يوتيوب في ديسمبر 2013 جدلاً واسعاً بعد ظهور ليلى مولاي في الشريط إلى جانب المغني حمزة براين مرتدية فستاناً قصيراً بدل الزيّ النسائي التقليدي للموريتانيات (الملحفة). وعقب تداول الفيديو بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي والضجة التي أثارها، استدعى الأمن الموريتاني ليلى مولاي ومدير الشركة المنتجة للفيديو كليب، وحقق معهما ثم أطلق سراحهما. إلا أن هذه الحادثة لم تكن الوحيدة. ففي 24 ديسمبر 2014 قضت محكمة موريتانية بالإعدام رمياً بالرصّاص على المدون محمد الشيخ ولد أمخيطير المتهم بالزندقة بعد نشره على الفيسبوك، مقالاً مسيئاً للإسلام أثار موجة احتجاجات وصلت إلى أبواب القصر الرئاسي. ووصف الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز المقال بـ”الجريمة النكراء”، قائلاً: “سنتخذ كل الإجراءات الضرورية لحماية الدين الإسلامي وللذود عن رسول الله”. — إثر هذه الأحداث وغيرها، بادرت الحكومة الموريتانية إلى صوغ قانون جديد باسم “قانون مجتمع المعلومات الموريتاني” الذي أثار امتعاض المدوّنين وروّاد مواقع التواصل الاجتماعي. فقد اعتبروه سعياً حكوميّاً لكمّ الأفواه وخنق حرية التعبير. فتضمّنت بعض مواد القانون عقوبة السجن من ستة أشهر إلى سبع سنوات وغرامة مالية من خمسمائة ألف إلى خمسة ملايين أوقية (ما يعادل 1,700 إلى 17 ألف دولارات) لمخالفي المواد المتعلقة بالمساس بـ”الأخلاق الحسنة”، فيما تنص المادة 18 منه على أن “تلغى جميع القوانين المخالفة لهذا القانون”. بعيداً عن الجدل الذي أثارته تلك الأحداث أو الإجراءات القانونية التي أعقبتها، فقد كشفت مدى التغيير الذي أحدثه الإنترنت في مجتمع إسلامي محافظ، ومدى تخوف الموريتانيين من هذا التغيير. يوضح المدوّن حميد ولد محمد لرصيفـ22 أنّ “الإنترنت أثرّ بشكل كبير على حياة الموريتانيين، لا سيما الشباب منهم، وأصبح الولوج إلى مواقع التواصل الاجتماعي عادةً يومية تتحوّل مع مرور الوقت إلى إدمان ذي تأثير شديد في انتشار العزلة الاجتماعية المناقضة لطبيعة مجتمعنا الأسري والمترابط”. يضيف: “نشر الإنترنت ثقافة دخيلة كان لها أثرها على المراهقين. وكلما انتشر الإنترنت، ظهرت هذه التأثيرات على الهوية والوحدة الوطنية والقيم والتقاليد”، موضحاً أنّ “جيل الإنترنت أقل ارتباطاً بالهوية الموريتانية وبات يميل إلى قيم وعادات أخرى”. أما رئيس اتحاد الفنانين التشكيليين الموريتانيين والمدوّن خالد مولاي إدريس، فيرى أن “الخصوصيات الثقافية والقبلية في موريتانيا أصبحت مهددة أكثر من أي وقت مضى” ويوضح أنّ “أحد الأسباب الرئيسة لهذا الاختراق هو عدم تحصين المجتمع عبر وسائل تحفظ ثقافته وقيمه كالسينما والفنون التشكيلية والمسرح.