لا شك أن الموريتانيين بلغوا في فن الكلام شأوا ثمنه كل مهرجان و شيد به في الماضي من قبل الركبان في مشارق و مغارب بعض أرض العرب و الإسلام و في غرب القارة الإفريقية حيث شاركوا في نشر الدين. و هو الميراث الجيد الذي يقتات عليه اليوم بعض المؤرخين و الباحثين و المهتمين من أنتروبولوجيين و علماء اجتماع فيعمرون بعض أوقات فراغهم الكثيرة و يرضون غرورهم المتهاوي أمام اهتمامات الحداثة بالحاضر و التركيز على إعداد المستقبل باعتباره حاضرا عير معلوم.
و قد تغلب علم الكلام، الذي تقمص "الأنظام و الاسجاع" الفقهية تلخيصا لأمهات الكتب الخليلية المالكية و بعده الشعر و قد شغل الجميع، على كل الآداب و الانشغالات الأخرى فلهيا النفوس بأوزانهما و إيقاعاتهما و سحر بيانهما عن كل علم تجريبي تطبيقي آخر يعين على الحياة و مقتضياتها و يصنع الحضارة المادية (هندسة المعمار، قنوات الري، أواني الخزف...) ليتيح رفاهيتها و يستجيب لمتطلبات رغد العيش، حتى تأصلت عادات الكسل و هجر العمل العضلي باعتباره منقصة و شأن الطبقات الدونية التي صنعتها عواتي الظلم و القهر و الكبر.
و بعيدا عن المعارف الحرفية و الصناعية التي توفر المهارات المُغنية و تُتيح المُشارِكةَ بعطائها في حراك البناء العام و رفع معالم الحضارة و ضمان بعض استقلالية الأمة (قماش، تعدين أولي، خزف) فقد انقسم الموريتانيون إلى :
- مهتمين بالعلوم الدينية دون سواها فمنهم من أخلص و ترك جليل خلف و عظيم بصمة و بال أثر محمود و منهم من أعان على غيره بتكريس مظاهر ظلم و تشريع حالات غبن و تهميش و إذلال،
- و محترفين فن الكلام شعرا فصيحا و لهجيا يجوبون الأرض كـ"اتروبادور اليونان القديمة" حاملين على ألسنتهم النارية لغة الفخر و المدح و التحريض و الملاحم التي مسرحها القبائل و الأمصار يشجعون على الكسل و يدفعون إلى الجور و هم يتغافلون. و إن احتراف الشعر ملاذ آمن من صولة الأقوياء من أهل المعرفة و أهل الصولة و موجب مضمون للحصول به على المال و الحماية و الاحترام.
- و مهتمين لاحقا بالسياسة ظهروا بعد مقدم الاستعمار و إطلاقه أول شرارة لها و إعداد النفوس المضطربة لخوض غمارها ـ لحسابات خطأته سريعا فيها عقليةُ "السيبة" العاتية ـ بفائض الكلام دون العمل الميداني، الأمر الذي أكسب هذا الدخيل ثوبا باليا تخيطه على ضعف لغةُ الخشب الموروثة عن تراكمات الماضي و ضرورة مجابهة معطيات الحاضر التي تحاربه في مجملها.
و هو ذات الواقع الذي ما زال يحكم مسار البلد المتدني في عصر الإعجاز التكنولوجي و الوعي الإنساني المتحرر من اعتبارات العصور الظلامية فلا :
· أهل الكلام، في شتى العلوم الإنسانية و قد غصت بهم كل مؤسسات البلاد، حولوا علومهم النظرية هذه إلى تطبيقات "توعوية" بأهمية العلوم الهندسية و التكنولوجية و توجيهية إلى ضرورة الاحتراف و الابتكار و التصنيع و التحويل و العمل بالسواعد و الحساب و الحواسب و امتلاك ناصية التقنيات في الميادين الصاخبة بأصوات المعاول الكهربائية و المحركات المصنوعة لكل التطبيقات،
· و لا أهل القوافي سلكوا بالشعر نهج الشعراء الذين وضعوا شعرهم السائغ في خدمة محاربة الظلامية الارتكاس الفكري (أحمد شقي) و كسر قيود التخلف الأدبي (ميخائيل نعيمة) و رفع شأن العلم (معروف الرصافي) و اللغة العربية (حافظ إبراهيم) و غيرهم الكثر من أهل الحرف النير الذين شاركوا في كل مادين التقدم بأقلامهم المتقدة و في جميع ميادين التحرر من التبعية و التخلف مساهمين بحضور لافت في توجيه شعوبهم إلى بناء أوطانها،
· و لا أهل السياسة صنعوا خطابا وطنيا تنطلق ثوابته من أصالة البلد و خصوصياته و أبعاده التاريخية و الاجتماعية و الإستراتيجية و لا كذلك من ضرورة استغلال و ترشيد ثرواته الطبيعية الهائلة في تنوع نادر و كبير، و لا هم انتفعوا بما تأثروا به من منهجيات العالم التحررية و إيديولوجياته الوطنية البناءة حتى باتوا أشبه بالغراب الذي نسي مشيته بعدما لم يحسن محاكاة مشية الحبارى.
و لا يضاهي ضعف المشهد الثقافي و غياب العطاء العلمي و ركود عملية البناء المتعثرة منذ الاستقلال لا يضاهيه إلا ما يكون من عبثية المشهد السياسي و انحدار مستوى الفاعلين إلى الحضيض في غياب البدائل لمر الواقع و شدة الضوضاء العقيمة القائمة على خلفية فوضى عارمة لا منطلق مدرك لها و منتهى منتظر معلوم.
فمتى نكف عن الثرثرة الغير مصنفة و نقلص قاموس الكلام إلى ما يفي بعمل البناء من المفردات المشحونة بسيميائية "الهمة" مثلما فعل الفيتناميون أيام الثورة و التحرر و ما بعدهما، و حتى ما خرجوا من عنق الزاجة و أدركوا "النمور" من حولهم أعادوا كتابة لغتهم و صقلوا حرفها و جمعوا مفرداتها و انطلقوا في رحاب العلوم التجريبية و الإنسانية فعمروا كل بؤر الخواء التي كان يحشوها التخلف و الظلامية و الكسل و غياب مفهوم الوطن الجامع المانع؟