تعرَف التنمية السياسية بأنها: "مجموعة من المتغيرات تستهدف الثقافة والبنية السياسية مؤدية إلى نقل المجتمع من نظام تقليدي أو غير حديث إلى نظام حديث أو غير تقليدي. وتهدف إلى إحداث تحول في قدرة وقابلية الإنسان على الأخذ بزمام المبادرة."
إذا انطلقنا من هذا التعريف يمكننا تصور العلاقة العضوية، والتأثير المتبادل بين التنمية والديمقراطية، الشيء الذي تثبته جميع التجارب الناجحة في العصر الحديث.
فإذا كانت التنمية عملية إرادية مقصودة ومخطط لها، فإن الديمقراطية هي الآلية والإطار المؤسسي والتشريعي والتنظيمي الذي يوفر الإطار العام لانبثاق التنمية، وشمولها لكافة مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
إن هذه الجدلية المتأتية من شبه حتمية رياضية تفرض على صناع القرار السياسي الباحثين عن طرق تنمية بلادهم بتفجير المزيد من الطاقات، وتوفير المزيد من الفرص، وخلق المزيد المبادرات الفردية والجماعية ، تفرض عليهم بحثا متواصلا عن وسائل وإمكانيات الدفع بعملية التنمية هذه، والتي ستكون فور تحققها مناسبة لترسيخ وتجذير الممارسات الديمقراطية .
مما تقدم تتبين أهمية إنشاء هيئات رقابية منتخبة ولامركزية، يكون لها دور واضح في إشراك المواطنين في تحديد وتوجيه ومراقبة وتنفيذ المشاريع والخدمات العامة التي تقررها الدولة المركزية. بالإضافة إلى تشخيص وتصنيف الأولويات انطلاقا من الواقع المحلي بعيدا عن الممارسات البيروقراطية والإملاءات الفوقية.
إن إخضاع السياسة العامة للدولة في المجالات التنموية للأولويات والحقائق والاعتبارات المحلية يؤدي بشكل منطقي إلى المزيد من العقلانية في تسيير وتوجيه مواردها. الأمر الذي سيكون له أثر كببر في الترشيد و الاستفادة القصوى من الإمكانيات المتاحة.
هنا تتجلى الرؤية التنموية الثاقبة المتمثلة في مقترح إنشاء مجالس جهوية منتخبة ،ضمن الإصلاحات الدستورية المعروضة الاستفتاء القادم ، تتولى الأدوار المذكورة أعلاه.
ويمكن تلخيص النقاط الإيجابية المتوخاة من المجالس الجهوية على المديين القصير والمتوسط فيما يلي :
- ترسيخ السلوكيات والممارسات الديمقراطية، والمشاركة الفعالة للمواطنين في صنع القرار الخاص بهم.
- زرع روح المواطنة والشعور بالمسؤولية اتجاه المجموعة.
- تفعيل دور المجموعات المحلية كمكونات مشكلة للدولة المركزية.
- إمكانية الكشف عن جوانب الفساد أو الانحراف التي قد تشوب سير أو تنفيذ المشاريع والسياسات العامة للدولة، والتي يمكن أن تفلت من أجهزة الرقابة الحكومية.
هذه باختصار شديد بعض الأوجه والمرجحات التي تتراءى من الرؤية الإستشرافية المتبصرة لمستقبل المسارين الديمقراطي والتنموي لبلادنا.
ولا يمكن لأي كان إنكار الحاجة الماسة لبلادنا في ظل ما تشهده من تطور وتنمية على كافة الأصعدة إلى مواءمة الجوانب المؤسسية والتشريعية مع مقتضيات التنمية ومتطلبات استدامتها.
أخيرا لا يمكنني أن أختم هذه العجالة دون أن أنبه إلى أن تضخم المؤسسات الدستورية ،يشكل في حد ذاته عائقا في سبيل التنمية ومعوقا لنشر الثقافة الديمقراطية في العقل الجمعي للمواطن. فمراجعة الدساتير وتحسينها لتواكب تطور ونماء البلدان شرط أساسي لخلق تطور مضطرد ومتسارع يحافظ على التوازي في المسارين التنموي والديمقراطي.