السفر في أطول قطار في العالم ليس كغيره من السفريات والرحلات التي تقوم بها وأنت تجوب موريتانيا. في القطار عالم آخر و حياة أخرى . البطء وطول المسافة بين مدينتي ازويرات – حيث جبال ومناجم الحديد- ومدينة انواذيبو -العاصمة الإقتصادية لموريتانيا وحيث يتم تفريغ خامات الحديد لتنقل إلى أسواق العالم- , يجعلك تصاب بالملل مالم تعش واقع السفر وتلتحم مع المسافرين في حياتهم.
القاطرة المسماة محليا "ادويرة " مخصصة لبسطاء الناس حيث يدفع الركاب للمشرف عليها ما بين 1000و2500 أوقية كثمن للتذكرة كما أن المشرف ليس ملزما بتوفير مكان ملائم للراكب وكأن المهم بالنسبة له هو الحصول على ثمن التذكرة لا غير وهو ما قد يؤدي في بعض الأحيان إلى نشوب مشادات كلامية تنتهي على عجل خصوصا بعد تدخل باقي الركاب لفض ذلك النزاع أو ضغط قائد القطار الموجود في المقدمة على بعد 2كلم من المكابح والتي على إثرها يصطدم الجميع بعضهم ببعض نساء ورجالا وشيوخا دون حدوث إصابات في غالب الأحيان. عندها تتوقف المشادة الكلامية ويعود الهدوء للمكان .
القطار المتجه من انواذيبو صوب مدينة ازويرات يكون أسرع. والسبب أن عربات حمل المعادن فارغة حيث يمكث مابين 15 و16 ساعة في مسافة تقدر ب 650كلم وهي الفاصلة بين مدينتي انواذيبو وازويرات- بينما يمكث القطار المتجه صوب انواذيبو قرابة 21 ساعة في الحالات الطبيعية وذلك عائد إلى أن العربات محملة بالمعادن.
الزينة ورفيقتيها تاجرات جاوزن العقد الخامس رفضن الظهور أمام الكاميرا وفضلن الحديث دون تصوير . الزينة تعتبر القطار جزءا من حياتها والتنقل على متنه مسألة عادية بالنسبة لها. تحكي الزينة قصتها مع القطار وهي مبتسمة وتفتخر بأنها ولدت في القطار إلا أن ذلك القطار تقول الزينة مختلف عن هذا, إذ لم يكن بنفس الطول وكانت حركته أسرع .
الزينة وصديقاتها قادمات من المغرب حيث كن في رحلة تجارية جلبن بعض الأمتعة التي لا يتسع المكان في القاطرة لحملها مما اضطرهن إلى دفع بعض المال لأحد الركاب لحمل وحراسة البضاعة المحملة في عربات حمل المعادن حتى وصول مدينة ازويرات .
غير بعيد من صديقات الزينة وعلى مقربة من باب القاطرة - وهو مكان خطر- ينام شيخ ستيني, أبسط حركة قد تسقطه من القطار فحوادث السقوط متكررة خصوصا للشيوخ والتي كان آخر ضحاياها شيخ أعمى سقط من القاطرة ولفظ أنفاسه الأخيرة في أحد المستشفيات بحسب المشرف على القاطرة.
الحديث داخل القاطرة ذو شجون, السياسة, والإضرابات العمالية , حتى أن البعض يروي بفرح رحلاته في القطار وكأنها بمثابة البطولات بالنسبة له.
مع حلول الظلام داخل القاطرة وانعدام الكهرباء تستمر الحياة ويستمر الجميع في تبادل أطراف الحديث الذي لا يعكره سوى مرور أحد الركاب متجها صوب دورة المياه عندها ترتفع أصوات المستلقين على البلاط الخشبي للقاطرة خصوصا أثناء عودة الراكب إلى مكانه وأرجله تكاد تكون ملطخة. عندها يبدأ سخط الجميع.
ما يلفت انتباهك في القطار طريقة صنع الشاي الذي يشرف عليه الرجال فقط , اثنان أو أكثر يعدانه دون اعتبار للوضعية التي عليها المكان. كؤوس الشاي موضوعة على البلاط الخشبي دون مراعاة لنظافة المكان. حب الموريتانيين للشاي يجعلهم يغضون الطرف عن حالة المكان أو عن كيفية إعداد الشاي المهم بالنسبة لهم هو الحصول على كأس شاي ساخن خصوصا وأن السفر طويل والليل شديد البرودة .
محمد السالك ولد عبد الله أحد المسافرين في القاطرة -وهو أحد المسافرين المنتظمين في القطار -لم يخف امتعاضه من المكان والحالة التي المزرية التي عليها قاطرة "ادورية". يقول محمد السالك : " رغم صعوبة السفر إلا أن القاطرة تعتبر أكثر أمانا من عربات حمل خام الحديد كما أن المسافر فيها أقل عرضة لغبار المعادن الذي قد يكون مؤذي أحيانا. لكننا هنا دفع الفاتورة والقاطرة معدومة النوافذ وبالتالي سيكون المسافرون عرضة للبرد والظلام كما أن دورات المياه مقرفة ورائحتها نتنة".
محمد السالك يقول إنهم مرغمون على السفر في القطار الذي اعتبره شريان حياة للمواطنين القاطنين على طول سكة الحديد إضافة إلى ذلك انعدام طريق إسفلتي وبالتالي المواطنون مرغمون على السفر في القطار فقط.
غير بعيد من محمد السالك وفي أحد الغرف توجد اميمة منت عبد الله الفتاة العشرينية والتي تركب القطار لأول مرة. اميمة من سكان الشرق الموريتاني. اختارت القطار للسفر من أجل اكتشاف شيء جديد. المعاملة الحسنة من المشرفين على القاطرة أعطتها بعض الارتياح , وبات الإزعاج محسورا لديها في ضغوط السفر واهتزاز القطار الذي يمكن التعود عليه حسب اميمة كما لم تخف رغبتها في السفر مرة أخرى في القطار واصفة إياه بالممتع.
محمد لمين ولد جدو تاجر الأغنام له رأي آخر عن القطار وهو الذي يتخذه وسيلة للسفر وحمل الأغنام منذ 17سنة . لم يسافر محمد لمين ورفاقه من تجار الأغنام حبا في القطار أو هواية, كما أن ركوبه في القاطرة - التي ليست محببه إليه- لرغبة فيها بل السبب الأساسي من الرحلة هو تجارة وحمل الأغنام. محمد لمين غاضب من المشرفين على القطار واتهمهم بالتقصير في صيانة القاطرات حتى تكون ملائمة خصوصا في رحلة قد تدوم قرابة عشرين ساعة. يروي محمد لمين كيف ينقل أغنامه من انواذيبو إلى وازويرات ومن قرية "شوم" إلى انواذيبو داخل عربات حمل المعادن : "الأغنام نضعها داخل العربات وأحيانا فوق خامات الحديد وهي مهددة دائما بالسقوط , الذي تكرر عدة مرات , كل شاة تسقط يعني ضياع ما مقداره 40000 أو 50000 أوقية كل ما ضاع لا يمكن الالتحاق به , السفر أخطر على الأغنام عندما يكون القطار مشحونا بالمعادن وبالتالي نكون دائما على استعداد لحدوث الأسوأ " محمد لمين عبر عن عدم إعجابه بالوضع في انتظار وجود بديل عن القطار لنقل تجارته.
ليست قاطرة "ادويرة" هي وحدها الموجود في آخر القطار هناك قاطرة أحسن منها حاليا لا يمكن للجميع الركوب فيها. تلك القاطرة مجهزة بالكهرباء ومطبخ وثلاجة والغبار فيها أقل من باقي أجزاء القطار حتى أنه يكاد يكون معدوما خصوصا وأن نوافذها مغطاة بستائر و يطلق عليه قاطرة vip نظرا لخدماتها وهي مخصصة لأطر ومديري شركة اسنيم إضافة إلى بعض الشخصيات الهامة في البلد.
عند وصول القطار لإحدى محطاته الأخيرة يفترق الجميع مع توديع بعضهم البعض بعد أن أمضوا قرابة يوم في رحلة مستمرة , وكأن القطار اختزل حياة مجتمع بأكمله بحلوها ومرها بطبقيتها وعالمها الخاص ,ويقى القطار واقفا في انتظار رحلة أخرى وأناس آخرين تكون لهم حكاية أخرى.