في حديثه عن مستقبل أوضاع الشرق الأوسط، استخدم السفير الإماراتي في واشنطن «يوسف العتيبة» عبارة secular بخصوص أنظمة الحكم في عدد من بلدان المنطقة، وقد أثار التصريح جدلاً واسعاً وتعرض للتشويه في الأوساط الأيديولوجية المتطرفة.
عبارة secular لا تعني العلمانية التي هي عبارة ملغومة تترجم بها أيضاً مقولة «اللائكية»، في حين أن دلالتها الحقيقية التي ترجع إلى القاموس اللاهوتي الوسيط تعني الأشخاص والمؤسسات التي لا تنتمي للمؤسسة الدينية؛ ولذا فهي تترجم أما بدنيوي أو مدني. فالغريب أن تثير هذه المقولة جدلاً عندما يتعلق الأمر بالدول المسلمة التي لا توجد فيها مؤسسات كهنوتية ولا معنى فيها للحكم الديني الثيوقراطي، بل إن كل علماء أهل السُنة اتفقوا على أن شأن الإمامة دنيوي مصلحي وتدبيري وليس من أمور العقيدة وأصول الدين. ما أراده العتيبة، هو أن دول المنطقة تنهج خطاً مدنياً تحديثياً في مقابل مسلك التطرّف الديني وأدلجة الدين، ولم يقل أبداً إنها أنظمة علمانية تُقصي الدين أو تحاربه، ومن هنا فإن استخدام عبارة «العلمانية» تشويه مقصود لخطابه رغم أنه لم يستخدمها لا في دلالتها الاجتماعية أو القانونية.
ولا بد هنا من التمييز بين مفهومين للعلمنة كثيراً ما يتداخلان في الكتابات العربية السيارة: العلمانية بمفهومها السوسيولوجي الذي يعني تقلص مكانة الدين في السياق الاجتماعي من حيث الاعتقاد والإيمان ومسلك التدين الفردي والجماعي، والعلمانية بمفهومها القانوني الذي هو النظام «اللائكي»، الذي يُقصي الدين من الشأن العام، ويُكرس حياد الدولة إزاء مختلف الديانات صوناً لحرية الضمير والوعي.
العلمانية بالمفهوم الأول ظاهرة تاريخية اجتماعية، تثبت كل الدراسات أنها خاصة بالمجتمعات الأوروبية الغربية التي انهارت فيها الديانات التقليدية، وانخفضت فيها نسبة الإقبال على الدين اعتقاداً وممارسة، بينما لا يزال الحضور الديني قوياً في الولايات المتحدة الأميركية وبلدان أميركا الجنوبية وبقية العالم غير الغربي وفي مقدمته العالم الإسلامي.
أما العلمانية بالمفهوم الثاني، فهي نظام قانوني له صيغ كثيرة تتأرجح من بين الخصوصية الفرنسية التي هي الحد الأقصى في الفصل بين الدين والدولة من خلال مركزية القيم الجمهورية العمومية والنظام اليوناني والدنماركي الذي ينص دستورياً على ديانة الدولة، في حين تعترف عدد من البلدان من بينها بريطانيا بكنيسة قومية وتنظم بلدان أخرى، مثل ألمانيا الحقل الديني قانونياً ومؤسسياً. ما بجمع هذه البلدان هو نظام الفصل بين المؤسسة الدينية والحقل العمومي، لكنها لا تحارب الدين وتلغي الحريات الدينية، بل إن بعضها يعلن رعاية الدين، ويقر بدوره الأهلي ضمن ضوابط الديمقراطية التعددية.
ومن الجلي أن مسار البلدان الإسلامية يختلف عن التجربة المسيحية الغربية، لغياب فكرة المؤسسة الدينية ولتجذر الدور الأهلي للدين الذي هو حاضن الهوية الجماعية ومعين القيم والأخلاق المشتركة في هذه المجتمعات.
ما يتعين التنبيه إليه هنا هو أن مقولة العلمانية ظهرت في السياق الفكري العربي في خلفيتين مرجعيتين متمايزتين: خلفية فلسفية وضعية مناوئة للدين ترجمتها المدرسة التطورية المادية (شبلي شميل وسلامة موسى...)، وخلفية أيديولوجية دينية انطلقت من مقولة ازدواجية الديني والسياسي في الإسلام، وبالتالي رفض أي تدبير دنيوي بشري للشأن العام خارج مفهوم «الحاكمية الإلهية» من منظور هذا الفهم المغلوط الخارج عن التقليد الإسلامي.
في الدلالتين يتم توسيع معنى العلمانية خارج خلفيتها المصطلحية لتضمينها إيحاءات ومعان لا صلة لها بها، ومن ثم أمكن القول إن عبارة علمانية في الخطاب العربي المعاصر تُموه وتقنع أكثر مما تكشف وتبرز، ولذا دعا المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري إلى التخلي عن استعمالها واستبدالها بالمطلوبين الموضوعيين اللذين عادة ما تستخدم لأجلهما وهما المطلب العقلاني والمطلب الديمقراطي التعددي. وخلاصة الأمر: ما أراد أن يقوله السفير العتيبة، هو أن بلدان المنطقة اختارت بناء حكومات وطنية مدنية حديثة وناجعة، ومن البديهي أنه لم يقصد العلمانية بمفهومها «اللائكي» أو مفهومها الاجتماعي، فالسعودية والإمارات وبقية البلدان المذكورة تحرص على رعاية الدين وحفظ دوره في الشأن العمومي ونصونه من الاستغلال الأيديولوجي الذي هو مظهر خفي من مظاهر العلمنة.