من أشد الحيل خبثا في تاريخ الحكم العسكري في مصر والوطن العربي، أنه يجرّم كثيرا من الأفعال المباحة، ثم يحاسب الناس على أساس هذا التجريم الباطل من أساسه.
فتراه على سبيل المثال يقول إن هدف الشخص الفلاني أو المجموعة العلانية هو (الوصول إلى الحكم)، ويستمر في ترديد تلك العبارة سنوات وسنوات، حتى تصبح الرغبة أو السعي للوصول إلى الحكم جريمة، منقصة، سُبة.
وعلى هذا الأساس، ترى الجميع يتعامل، فترى السياسيين حين يهاجمهم إعلام النظام قائلا (هدفكم الوصول للحكم)، تراهم يدافعون عن أنفسهم قائلين (لا والله.. أبدا أبدا أبدا.. نحن لا نريد الوصول للحكم بأي حال.. ولم يدر الأمر بذهننا أصلا والله العظيم) !!!
والحقيقة أن الوصول للحكم هدف مشروع، بل إن الوصول للحكم قد يكون فرضا على من تتوفر فيه الصفات اللازمة في زمن يحكم فيه الخونة والعملاء.
إن عمل أي شخص بالسياسة لا بد أن يكون من أجل الوصول للحكم، لأن فكرة العمل السياسي هي الإصلاح من خلال مؤسسات الدولة، وبالتالي تصبح الجريمة الحقيقية ليست في الرغبة أو العمل من أجل الوصول إلى الحكم.. بل تصبح الجريمة (كيف وصلت للحكم؟ بالصناديق؟ أم بالدبابات؟ ماذا فعلت حين وصلت للحكم؟ قتلت الآلاف؟ واعتقلت وشردت واضطهدت مئات الآلاف؟ سرقت المليارات من قوت الناس؟ أم أعطيت الناس حقوقهم؟).
هذه هي الأسئلة الحقيقية التي ينبغي أن تطرح!
ما زلت أذكر أن السيد المخلوع حسني مبارك (اللص) كان يقول ذلك عن معارضيه، هو في الحكم منذ عشرات السنين ويتهم الآخرين بالرغبة أو العمل من أجل الوصول للحكم ... هكذا بلا أدنى خجل ...!
إذا كان الوصول للحكم خطيئة فلماذا استمرأتها ثلاثين عاما يا لص المال العام؟
من ضمن الجرائم التي ليست جرائم ما يقال الآن عن المعارضين المصريين الذين يقاومون الانقلاب العسكري من الخارج (عايز تعارض عارض من الداخل)، إنها جريمة أخرى يجري تفصيلها الآن، والغريب أيضا أن كثيرا من مناهضي الانقلاب يتصرفون بشيء من الخجل، وكأن المعايير الأخلاقية قد أصبحت تصدر بفرمان عسكري من المخابرات الحربية.
وكأن المعارضة من الخارج جريمة فعلا، متجاهلين تاريخا إنسانيا ضخما لمعارضين غيروا وجه الدنيا، وكانت المعارضة من الخارج مرحلة أساسية في نضالهم.
* * *
عشرات الجرائم -وما هي بجرائم- ندافع عن أنفسنا لأننا ارتكبناها، مثل الحصول على جنسية أخرى بجوار الجنسية المصرية، أو العمل مع مؤسسات المجتمع المدني غير المصرية، أو التعامل مع القنوات الفضائية الأجنبية، أو الاتصال ببعض السياسيين العرب أو الأجانب أو ممثلي السفارات الأجنبية في مصر أو خارج مصر.. كل هذه الأشياء يقوم بها السياسيون والنشطاء والحقوقيون في العالم كله بلا أدنى حرج، وكل هذه الأشياء يقوم بها النظام ورجاله الرسميون وغير الرسميين، ولكن الحاكم العسكري في مصر يقرر ويكرر في إعلامه أن ذلك من خوارم الوطنية إذا فعله المعارضون، ونحن حين نبدأ بالدفاع عن أنفسنا نوافق ونؤكد كلامه.
* * *
نحن نؤمن بالحرية، ولكن الحياة في سجن دولة الأسياد والعبيد يسلب منا الإحساس الفطري بها، ومع الوقت نصاب بمظاهر العبودية دون أن نشعر، فنبدأ بتبرير تصرفاتنا التي لا ينبغي لنا أن نبررها أصلا.
أنا لا أتحدث عن توضيح الحقائق، أو تكذيب الشائعات، أو التواصل بين المشاهير وجماهيرهم، أنا أتحدث عن كثير من السياسيين والنشطاء والحقوقيين الذين يبررون أشياء طبيعية مثل (الرغبة في الوصول للسلطة)، أو (التعامل مع مؤسسات غير مصرية)!
* * *
إن وسيلة الدفاع المثلى في هذه الحالة هي الهجوم، والنظام الذي يحاول أن يجعل من هذه التصرفات العادية جرائم مشينة، يحاول أن يجعل من جرائمه المشينة تصرفات عادية، وبالتالي.. تراه يبرر قتل الناس، واغتصابهم، وسجنهم، وتعذيبهم، ومصادرة أموالهم.. إلخ، ويتحدث عن كل ذلك وكأنه أمر طبيعي، ويتعجب من الدول التي تستنكر قتل بعض مواطنيها على أيدي الجلادين المصريين!
إن دفاعنا عن أنفسنا ينبغي أن يكون بالهجوم على هؤلاء الحثالة الذين يستمرون بارتكاب كافة الخطايا والجرائم التي تجمع عليها الشرائع والقوانين، ثم يأتون إلينا يعيروننا بما لا نخجل منه، وبما لا يمنعه قانون، ولا يجرمه عرف، ولا يحرمه دين أو شرع.
* * *
خلاصة القول: خطابنا الإعلامي ينبغي أن يتحرر من الدفاع عن النفس إلى الهجوم على خصمنا المجرم، وحين نهاجم هؤلاء القتلة لا نهاجمهم إلا بالحق، لا نكذب، ولا نلفق، ولا نفتري على أي شخص أو مؤسسة، بل نسمي الأمور بمسمياتها، ونظهر الحقائق كما هي، ونعرض جميع الآراء بلا أي خوف.
إذا فعلنا ذلك.. ستعود فطرة الناس إلى سيرتها الأولى التي فطر الناس عليها، وسنشعر نحن أيضا بحريتنا، من خلال تصرفنا كأحرار، دون شعور بأي بطحة على رؤوسنا.
البطحة ... على رأس أنظمة الاستبداد، وليست على رؤوس المعارضين الشرفاء !
عبدالرحمن يوسف