دون أن يذكر أحدا بالاسم، كتب الأستاذ محمدو ولد إشدونصا يرد فيه على مناوئي مشروع النشيد الوطني الحالي. وفضلا عن كون مقاله يظهر فيه ما يعرفه الكثيرون من كفاءة في التعبير والتحليل لدى هذا المحامي المتألق والسياسي المتمرس المتميز بوطنيته، فإنه كذلك يشكل نموذجا من النقد الأدبي الرفيع. سواء تعلق الأمر بمقاصد الشعرأو بتقنياته الإبداعية التي تعرض لها بوضوح وبشجاعة ليدحض انتقادات دقيقة صدرت عن الشاعر الحسين ولد محنض وآخرين غيره حول مشروع النشيد الوطني.
وليس الأمر غريبا : ولد إشدو شاعر وسيبقى شاعرا.. وولد إشدو ناقد وسبيقى ناقدا. وهذه المواهب الراسخة لديه أهداه الله عز وجل إلى توظيفها في سبيل ما يراه خدمة لوطنه وللأمة العربية والإسلامية.
-----------------------------------
" فتنة النشيد الوطني أو بقرة بني إسرائيل / بقلم الأستاذ محمدٌ ولد إشدو
لعلنا نتذكر جميعا أن الحديث ظل جاريا منذ أمد بعيد عن ضرورة تغيير نشيدنا الوطني حتى ينسجم مع التحولات الكبرى التي جرت في بلادنا وفي العالم خلال العقود الستة الماضية من عمر دولتنا الفتية. وقد أصغت السلطة الوطنية في نطاق إعادة التأسيس والبناء التي تضطلع بها منذ انتفاضة أغسطس 05 لذلك الحديث فتبنت مطلب تغيير النشيد وأدرجته في لائحة القضايا الوطنية الكبرى التي انعقد حولها إجماع أطياف واسعة وفاعلة من المهتمين بالشأن الوطني العام وتخلف عنها بعض؛ وذلك في حوار واسع وصريح وحر دام نحو ثلاثة أسابيع.
وبعد نجاح الحوار، وتزكية الشعب لنتائجه في استفتاء عام، شكلت الحكومة لجنة واسعة ضمت كفاءات من الناشطين في حقول الأدب والسياسة والاجتماع، بغية اختيار نص النشيد. وقد أنجزت تلك اللجنة عملها بنجاح، واختارت النص التالي:
بلادَ الأُبَاةِ الهُدَاةِ الكِرامْ ** وحِصْنَ الكِتابِ الذي لا يُضَامْ
أيا مَوْرتانِ رَبيعَ الوئامْ ** ورُكْنَ السَّماحةِ ثَغْرَ السلامْ
سنَحْمي حِماك، ونحن فداكِ ** ونَكْسُو رُبَاكِ بِلَوْنِ الأَمَلْ
وعــــند نـــــِداكِ نُلَــبِّي: أجَلْ
بُدورُ سَمَائِكِ لَمْ تُحْجَبِ ** وشمسُ جَبِينِكِ لَمْ تَغرُبِ
نَماكِ الأمَاجدُ مِن يَعْرُبِ ** لإفْرِيقِيَّا المَنبَعِ الأعْذَبِ
………………
رَضَعْنَا لِبانَ النَّدَى والإِبَا ** سَجَايَا حَمَلْنَ جَنًـى طَيِّبَا
ومَرْعًى خَصِيباً، وإنْ أجْدَبَا ** سَمَوْنَا، فَكَانَ لَنَا أرحَبَا
………………
سَقَيْنا عَدُوَّكِ صَاباً ومُرًّا ** فَمَا نالَ نُزْلًا ولا مُسْتَقَرَّا
نُقَاوِمُهُ حَيْثُ جَاسَ ومَرَّا ** نُرَتِّلُ: {إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرَا}
……………….
قَفَوْنَا الرسولْ بِنَهْجٍ سَمَا ** إلى سِدْرَةِ المجد فوقَ السَّمَا
حَجَزْنَا الثُّرَيَا لَنَا سُلَّمَا ** رسَمْنَا هُنالِكَ حَدَّ الحِمَى
…………………
أخَذْنَاكِ عَهْدًا، حَمَلْنَاكِ وَعْدًا ** ونُهدِيكِ سَعْداً لِجِيلٍ أَطَلْ
سَنَحْمِي حِمَاكِ، أُسَارَى هَوَاكِ ** ونَكْسُو رُبَاكِ بِلَوْنِ الأَمَلْ
وقد كان من المفترض أن تتم هذه العملية بسهولة وهدوء متناهيين مثلما جرى حين قيام الدولة الموريتانية، وما يجري في مختلف الدول الديمقراطية المتحضرة، بدل أن نجعل منها فتنة أو نجعلها "بقرة بني إسرائيل". ذلك أن المسألة برمتها لا تعدو كون السلطة المختصة في المجال قد قامت بواجبها ومارست حقا مخولا لها بموجب القانون.
ولكن هيهات !
لقد أقام طيف من كتابنا وشعرائنا القيامة حول هذا النشيد الوليد، فتحاملوا عليه وصوبوا نحوه ونحو لجنته سهام النقد الهدام والتجريح المغرض من كل حدب وصوب، وقالوا فيه نثرا وشعرا و... ما لم يقله مالك في الخمر؛ محاولين بذلك إزهاقه ووأده.
وعلى الرغم من ابتعاد جل ما قد قيل في هذا الموضوع عن الفنية والموضوعية واتصافه بالتسييس وعدم التأسيس ودخوله في أغراض الحملة "الربيعية" الظالمة التي تخاض منذ نحو عقد من الزمن ضد التجربة الوطنية الرائدة في موريتانيا، فإن بعضه يستوجب الملاحظات التوضيحية التالية:
ولو أن قومي أنطقتني رماحهم ** نطقت، ولكن الرماح أجرت؟
في المجتمعات المتخلفة قد تكسب البلاغة الإنشائية جولة على حساب الواقع، لكنها سرعان ما تتبخر وتندثر في مواجهة عناده الذي لا يلين.. وتلك سنة الكون: {فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
* إنه ينعي على النص افتقاره "إلى وحدة موضوعية" هو أول الشاهدين له بها حين يقول إنه "بإمكان كل شخص أن يغير من ترتيب أشطاره وأبياته كيف شاء دون أن يتغير شيء" فهل توجد وحدة موضوعية أقوى وأعمق من ذلك؟
* وأنه يفتقر "إلى البعد التخييلي الذي هو جوهر الشعر". وعلى الرغم من عدم إلزام البعد التخييلي في الأناشيد وتحبيذ المباشرة والبساطة فيها، فإني أسأل إلى أي بعد ينتمي هذان المقطعان:
بدور سمائك لم تحجب ** وشمس جبينك لم تغرب
نماك الأماجد من يعرب ** لإفريقيا المنبع الأعذب
قفونا الرسول بنهج سما ** إلى سدرة المجد فوق السما
حجزنا الثريا لنا سلما ** رسمنا هنالك حد الحمـى
* أن النص اعتمد تراكيب ضعيفة لا تدل على حضور الذائقة الأدبية. ولكن الأمثلة التي سيقت على ذلك لا تدل إلا على عكسه.
* كما لا تدل عبارة "نلبي أجل" على التعسف في الصياغة. فقد قالها كثيرون نذكر منهم الأستاذ أحمد ولد ممون في نشيده الذي لحنه وغناه الأستاذ محمد شين ولد محمادُ في نهاية الستينيات "إذا الشعب قال يقول: أجل".
* أما ما ذكر عن الآية الكريمة، وعن يعرب، وعن "أسارى هواك" فيفتقر إلى التوضيح حتى لا يكون نقدا من أجل النقد، وحتى يخرج من شك طلاسم أبي ماضي.
* ومن المآخذ كذلك ما ذكر من عدم وضوح الغرض من ذكر شطر "ونكسو رباك بلون الأمل" مرتين للمتلقي. وهذا أمر غريب جدا أن يعاب على نشيد أن تكون له لازمة تتكرر بين فقراته وفي ختامه. فالنقاط الواردة بين الفقرات إشارة إلى تكرار اللازمة.