رأت مجلة فورين أفيرز الأمريكية أن تنظيم داعش الذي تبنى هجمات بروكسل مؤخراً فضلاً عن غيرها من التفجيرات الإرهابية في عواصم العالم، ليس مجرد جماعة إرهابية، إذ إنه حل محل تنظيم القاعدة في كونه التهديد الجهادي الأكثر إثارة للقلق في العالم.
وتقارن المجلة بين تنظيمي القاعدة وداعش، مشيرة إلى التباين الشديد بينهما على رغم تشابه الإيديولوجيا والأهداف، ومؤكدة أن تكتيكات مكافحة الإرهاب الأمريكية التقليدية لن تؤدي إلى دحر داعش، وأنه على الولايات المتحدة اتباع سياسة "الاحتواء الهجومية" لتقويضه.
عدو غير تقليدي
وتقول الباحثة أوردي كورث كرونين مديرة برنامج الأمن الدولي في جامعة جورج ميسون الأمريكية، "في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، شعرت مؤسسة الأمن القومي الأمريكية بالقلق، إذ استغرقت عقوداً من الزمن في الاستعداد لمواجهة الأعداء التقليديين، ورغم ذلك لم تكن واشنطن مستعدة لمواجهة التحدي الذي يمثله عدو غير تقليدي مثل تنظيم القاعدة، ومن ثم شكلت الولايات المتحدة هيكلاً بيروقراطياً معقداً لمحاربة التنظيمات الجهادية، وعمدت إلى أن تتكيف أنظمتها العسكرية وأجهزتها الاستخباراتية وقوانينها مع مهام مكافحة الإرهاب والتمرد".
التشابه بين تنظيمي القاعدة وداعش في الإيديولوجيا والأهداف الطويلة المدى، فضلاً عن تحالفهما في السابق، يدفعان الكثير من المراقبين إلى افتراض أن الحل لمواجهة تهديد داعش حاليا يتمثل ببساطة في إعادة واشنطن التركيز على هدف جديد لمكافحة الإرهاب.
داعش ليس القاعدة
وترى المجلة أن داعش ليس تنظيم القاعدة، ولا هو جزء من التنظيم الإسلامي الراديكالي القديم.
ومع أن تنظيم القاعدة لا يزال يشكل خطراً، لاسيما فروعه في شمال إفريقيا واليمن، فإن داعش يُعد خليفته ويجسد مرحلة "ما بعد التهديد الجهادي للقاعدة".
وانتقدت المجلة الرئيس الأمريكي باراك أوباما واعتبرت أنه "مخطىء" عندما وصف داعش بأنه "مجرد منظمة إرهابية واضحة وبسيطة" وذلك في خطاب تليفزيوني خلال شهر سبتمبر الماضي، إذ أن هذا الوصف لا ينطبق على داعش، وعلى الرغم من أن التنظيم يستخدم الإرهارب بصفته "تكتيكاً"، فإن داعش ليس مجرد منظمة إرهابية على الإطلاق.
الشبكات الإرهابية مثل القاعدة يتوافر لديها، بشكل عام، عشرات ومئات الأعضاء الذين يقومون بشن هجمات إرهابية على المدنيين فقط، ولا يسيطرون على الأراضي وليس في إمكانهم مواجهة قوات عسكرية بصورة مباشرة.
وعلى النقيض من ذلك، يضم داعش أكثر من ثلاثين ألف مقاتل، واستولى على أراضٍ في كل من العراق وسوريا ويحافظ على قدرات عسكرية واسعة النطاق، كما تمتد سطوته إلى خطوط الاتصال والبنية التحتية وموارد مالية وينخرط في عمليات عسكرية متطورة".
دولة زائفة
وعلى هذا النحو، تعتقد المجلة الأمريكية أن داعش "دولة زائفة" يقودها "جيش تقليدي"، ولذلك لن تفلح في دحرها استراتيجيات مكافحة الإرهاب التي أسفرت عن تقليص تهديد تنظيم القاعدة إلى حد كبير.
وتنتقد واشنطن التي تأخرت في جعل سياساتها في العراق وسوريا ملائمة مع الطبيعة الحقيقية للتهديد الذي يمثله تنظيم داعش؛ إذ ركزت التدخلات الأمريكية لمكافحة الإرهاب في سوريا، في الغالب، على تفجير الأهداف التابعة لفروع تنظيم القاعدة، وهو ما منح داعش ميزة ، وكذلك أتاح الفرصة لنظام بشار الأسد لسحق المعارضة السورية المعتدلة المدعومة من الولايات المتحدة.
أما في العراق، فإن واشنطن لا تزال تعتمد على شكل من أشكال مكافحة التمرد، وتعول على الحكومة المركزية في بغداد لاستعادة الشرعية المفقودة وتوحيد البلاد وتكوين قوات من السكان الأصليين لمحاربة داعش ودحره. بيد أن مثل هذه الأساليب التي تنتهجها الولايات المتحدة تجاوزتها الأحداث بشكل كبير.
عقلية مختلفة
الاختلافات بين تنظيمي القاعدة وداعش تعود بصورة جزئية إلى جذور الخلفية التاريخية لظهورهما ، إذ تشكلت العقلية الاستراتيجية لتنظيم القاعدة خلال الحرب التي استمرت عشر سنوات عقب الغزو السوفياتي لـ أفغانستان عام 1979، أما السبب في ظهور داعش فيرجع إلى غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003.
وفي ذلك الوقت كان داعش مجرد جماعة سنية متطرفة تقاتل القوات الأمريكية وتهاجم المدنيين الشيعة في محاولة لإثارة حرب أهلية وتطلق على نفسها اسم "تنظيم القاعدة في العراق" بزعامة أبو مصعب الزرقاوي.
واللافت، أن تجديد هذا التنظيم نفسه عقب مقتل الزرقاوي تم داخل السجون التي تديرها الولايات المتحدة في العراق.
واستغل التنظيم الفوضى والحرب الأهلية في سوريا واستولى على الأراضي في شمال شرق سوريا، كما استغل الموقف المتشدد لرئيس الوزراء العراقي في حينه نوري المالكي تجاه السنة، واستولى التنظيم على العديد من المدن العراقية وأعلن دولته للخلافة الإسلامية المزعومة.
ويلاحظ بروز اختلاف الأهداف والنوايا لكل من التنظيمين، إذ تصوّر القاعدة نفسها بأنها "طليعة التمرد العالمي لتعبئة المجتمعات الإسلامية ضد نظام الحكم العلماني"، وفي المقابل يسعى داعش للسيطرة على الأراضي وإنشاء دولة إسلامية سنية يحكمها التفسير المتشدد للشريعة الإسلامية.
علاوة على ذلك يعمل داعش على الإزالة الفورية للحدود السياسية التي رسمتها القوى الغربية في الشرق الأوسط خلال القرن العشرين، فضلاً عن أن داعش ينصب نفسه السلطة السياسية والدينية والعسكرية الوحيدة لجميع المسلمين في العالم.
داعش تحدٍ مختلف
ونظراً إلى إختلاف النشأة والأهداف وآليات العمل لكل من القاعدة وداعش، فإن استراتيجيات مكافحة الإرهاب الفاعلة التي سبق للولايات المتحدة أن استخدمتها ضد القاعدة لن تفلح في محاربة داعش، إذ أنه يمثل تحدياً مختلفاً لأسباب عدة:
أولا: اعتمدت الولايات المتحدة على تصفية نحو 75 في المئة من قادة تنظيم القاعدة باستخدام القوات الخاصة وطائرات من دون طيار، إذ كانوا يختبئون في المناطق الريفية والكهوف.
ولكن من الصعب تكرار هذا التكتيك مع مقاتلي داعش الذين يتمركزون في المناطق الحضرية وينخرطون مع السكان المدنيين.
ثانياً: على عكس تنظيم القاعدة، إن قتل زعماء وقادة داعش لن يصيب التنظيم بالشلل، لاسيما أنه يدير شؤون حكمه باعتباره "شبه دولة" ذات هيكل إداري معقد يتضمن مجالس في المناطق التي يسيطر عليها في العراق وسوريا تتعامل مع الأمور المالية والإعلامية والدينية، وتعمل من دون البغدادي أو مساعديه.
نموذج مالي
ثالثاً: التمويل يُعد التحدي الأكبر أمام التكتيكات التقليدية للولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب. وبحسب كاتبة المقال، برعت تلك التكتيكات في قطع التمويل عن تنظيم القاعدة وتقويض قدرته على الاستفادة من عمليات غسل الأموال وتلقي الأموال تحت غطاء التبرعات للأعمال الخيرية.
وعلى النقيض من ذلك، لا يحتاج داعش إلى التمويل الخارجي، ومن خلال استيلائه على الأراضي يقدم داعش نموذجاً مالياً يحتذى به للجماعات الإرهابية الأخرى في الاكتفاء الذاتي؛ وذلك من خلال السيطرة على حقول النفط الرئيسية وبيع النفط في السوق السوداء في كل من سوريا والعراق وتهريبه إلى تركيا والأردن. وتتراوح إيرادات داعش من عائدات النفط بما بين مليون وثلاثة ملايين دولار يومياً.
النفط ليس العنصر الوحيد في الحافظة المالية لداعش الذي يعتمد في موارده على عمليات السلب والنهب للبنوك والآثار في المدن التي يستولى عليها، إضافة إلى نهب ممتلكات الأفراد في تلك المدن، كما يسيطر داعش على شرايين النقل الرئيسية في غرب العراق ويفرض ضرائب على حركة البضائع، ويحصل على عائدات من المحاصيل الزراعية في مدينة الرقة بسوريا، علاوة على الضرائب الباهظة وأموال الفدية لتحرير رهائن.
الجنس والاشباع البدني
رابعاً: بمساعدة حلفائها، عملت الولايات المتحدة جيداً على تركيز الضوء على العنف الذي تمارسه القاعدة، الأمر الذي أدى إلى إثارة غضب أفراد المجتمعات الإسلامية ضد التنظيم.
وبالنسبة إلى داعش وما يبثه من أشرطة فيديو وحشية تستهدف أساساً إيصال رسالة مفادها "القوة الغاشمة والانتقام" وليس الشرعية، تم تصميمها خصيصاً من أجل تخويف الأعداء وقمع المعارضة، وهي ستؤدي في نهاية المطاف إلى إثارة النفور بين المسلمين، ولكن تركيز واشنطن في الوقت الراهن على تلك الأساليب الوحشية يساعد على تعزيز إدعاءات داعش بالقوة الهائلة.
خامساً: لا يزال الأميركيون وحلفاؤهم عاجزين عن تقييد الجهود التي يبذلها داعش في تجنيد مقاتلين جدد بين صفوفه.
وعلى عكس تنظيم القاعدة الذي اعتمد على التدين والقيم الأخلاقية، يستخدم داعش الكحول والنساء وحب المغامرة والجنس والدافع لممارسة الوحشية والعنف (أي وسائل الإشباع البدني) لجذب الشباب إلى صفوفه، فضلاً عن فرص التجنيد الفورية للقتال.
الاحتواء الهجومي
الولايات المتحدة لا تملك خيارات عسكرية جيدة في حربها ضد داعش الإرهابي، وتصف التفكير في شن حرب كاملة تقليدية ضد داعش لدحر التنظيم، بأنه "حماقة"، لأن الرأي العام الأمريكي، الذي شهد حرباً استمرت أكثر من عشرة أعوام، لن يدعم احتلالاً طويل الأمد أو القتال العنيف الذي سيكون ضرورياً للقضاء على داعش نهائياً.
وتقترح المجلة في نهاية تحليلها "الاحتواء الهجومي" الذي يجمع بين مجموعة من التكتيكات العسكرية المحدودة واستراتيجية دبلوماسية واقتصادية واسعة لوقف توسع داعش وعزل التنظيم وتجريده من قدراته، وذلك بمشاركة اللاعبين الإقليميين في المنطقة والقوى الدولية؛ إذ يجب على الولايات المتحدة أن تتوقف عن التصرف كما لو أنه بإمكانها إصلاح كل مشاكل المنطقة بالقوة العسكرية، بدلاً من إحياء دورها كقوة دبلوماسية عظمى.
وكالات