تعيش الأغلبية الرئاسية في موريتانيا على وقع صراعات متعددة، تتزايد وتتصاعد مع تقدم المأمورية الثانية للرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز، وتتشكل أقطابها من شخصيات وزانة في الأغلبية، وأعضاء بارزين في الحكومة أو في الحزب الحاكم، أو شخصيات مقربة من ولد عبد العزيز.
ويأخذ هذا الصراع طبعا عموديا من خلال دخول شخصيات وازنة على خطه، وأفقيا من خلال انعكاسه بدرجات مختلفة على أداء مؤسسات رسمية، خدمية، وإعلامية، واقتصادية، كما وصلت امتداداه لمؤسسات عسكرية وشخصيات عسكرية وأمنية.
ضعف الخصم
وترجع قيادات في الأغلبية تصاعد الخلافات بين قياداتها إلى ضعف المعارضة، حيث ترفع قوتها من درجة التحدي، وتفرض على الأغلبية تناسي خلافاتها ولو إلى حين، أما ضعفها – كما هو واقع يضيف أحد قيادات الأغلبية – فيدفع هذه الشخصيات إلى بناء ذاتها، والسعي لكسب نقاط قوة ومساحات في مربعات النفوذ على طريق هرم السلطة.
وأدى تصاعد الصراع خلال الأسابيع الأخيرة من ظهوره بشكل بارز في خطابات رسمية، وفي تنابز بالألقاب عبر وسائل الإعلام الرسمية، وفي قرارات هنا أو هناك، أو إلغاء لها بسبب موقف الطرف الآخر منها، واستخدمت في هذه الصراعات وسائل مختلفة.
وزاد من وتيرة الصراع حديث دبلوماسيين غربيين لعدد من السياسيين الموريتانيين، عن تأكيدات تلقوها من الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز بشأن احترامه للدستور الموريتاني، ومغادرته للسلطة عند نهاية مأموريته في يوليو 2019، فضلا عن توقيفه لجولاته الداخلية، قبل كمالها، وهي الجولات التي كانت المعارضة تصفها بأنه تحضيرية لحملات تغيير الدستور.
الرؤوس المتنافسة
ويشارك في التنافس رؤوس كبيرة على رأسها الوزيرين الأولين السابق، والحالي، مولاي ولد محمد الأغظف، ويحي ولد حدمين، ورئيسي حزب الاتحاد من أجل الجمهورية السابق والحالي، إسلك ولد إزيد بيه، وسيد محمد ولد محم، إضافة لوجود مساحة في الصراع لدى رئيس مجلس الشيوخ محسن ولد الحاج، فضلا عن الحضور البارز في مضمار الصراع للعقيد المتقاعد وعمدة بلدية الزويرات الشيخ ولد بايه، إضافة لعدد من قادة الأركان ولواءات الجيش.
وترتفع وتيرة الصراع لدى بعض هذه الجهات لتصل درجة التحضير لما بعد نهاية المأمورية الثانية للرئيس ولد عبد العزيز، فيما تأخذ أبعادها الواقعية واصطفافاتها في كل قطاع من القطاعات الحكومية، وحتى بين مكونات المشهد السياسي الموالي والمعارض، وفي الوسط الإعلامي بشكل عام.
صحيفة "الأخبار إنفو" تستعرض هذه الشخصيات، ومظاهر صراعها المحتدم، والطافي على مسرح الحياة العامة في موريتانيا:
صراع الوزيرين
وأبرز هذه الصراعات، وأعمقها صراع الوزير الأمين العام للرئاسة مولاي ولد محمد الأغظف، وخلفه في الوزارة الأولى يحي ولد حدمين، وقد وصل هذه الصراع درجة تبادل كلمات نابية داخل اجتماع مجلس الوزراء، وذلك أثناء نقاش ملف عمال أمل في بداية العام 2015.
وانعكس صراع الرجلين على أعضاء الحكومة، حيث انقسمت ولاءاتهم بين الرجلين، وأضحى لعدد منهم اجتماع دوري في مكتب الوزير الأمين العام للرئاسة، فيما طبع التوتر علاقتهم بالوزير الأول ولد حدمين.
كما أثر الصراع بين الرجلين على ملف الحوار السياسي في البلاد، حيث عمل كل واحد منهما على إفشال مساعي الآخر في جمع الأطراف السياسية موالية ومعارضة على بساط واحد، فأثناء إشراف ولد حدمين على مرحلة اللقاء التهميدي عمل ولد محمد الأغظف – حسب قيادات في الأغلبية – على إفشال اللقاء، وكان وراء مقاطعة قيادات معارضة بارزة له.
وحين عاد ملف الحوار إلى محمد الأغظف، عمل ولد حدمين على إفشاله من خلال خلق أزمة المحاظر في المناطق الشرقية، وهو ما أثر على العلاقة بين الحكومة وحزب "تواصل" الذين من أبرز المتحمسين للحوار.
وكان للتصفيات الوظيفية دورها في هذا الصراع، حيث اتهم مقربون من ولد محمد الأغظف، الوزير الأول ولد حدمين بتفصية الشخصيات المحسوبة عليه في الوزارة الأولى، وفي الأمانة العامة للحكومة، وهي شخصيات اتهمها أنصار ولد حدمين بالعمل لصالح ولد محمد الأغظف، ونقل كواليس الوزارة الأولى لها، ونسريب بعضها أحيانا للإعلاميين.
ونتيجة لاحتدام الصراع وتصاعده، لم يعد للحياد مكان فيه، حيث يتم تصنيف كبار المسؤولين سياسيين وأمنيين واقتصاديين على حساب هذا الجناح أو ذلك، وهو ما سيطبع طبيعة التعامل معهم في المستقبل بناء على تصنيفهم.
صراع الرئيسين
وغير بعيد من صراع الوزيرين الأولين السابق والحالي، تعرف قمة الأغلبية صراعا آخر بين رئيس الحزب السابق إسلك ولد إزيد بيه، والحالي سيد محمد ولد محم، ويحشد كل واحد ما يستطيع من مسؤولين، وإعلاميين، ونشطاء في مواجهة الآخر.
وينعكس صراعهم بشكل جلي في وسائل الإعلام الرسمية، وهو صراع وصل درجة تبادل مدراء وسائل الإعلام التنابز على الهواء مباشرة، وفي خطابات رسمية يحضرها وزراء ومسؤولون كبار.
كما انعكس بين البرلمانيين، والكتل الشبابية، دون أن ينقص ذلك حظ أعضاء الحكومة منه.
وكان للجانب الاقتصادي حظه، حيث ظهر هذه الصراع أثناء تجديد رؤساء الاتحادات المختلفة،
وخصوصا اتحاد المنمين، والمزارعين، وكان الأخير أكثر حدة في الخلاف، حيث رفضت رئيس اتحاد أرباب العمل ترشيح اللواء المتقاعد جا آدما عمار، فيما أصر الطرف الآخر، ليلجأ في النهاية لحيلة، وضعت اللواء في الرتبة الثانية على أن يستقيل صاحب الرتبة الأولى لاحقا.
وداخل هذه الصراعات تختط شخصيات أخرى مربعات نفوذ لها في هذا الحلف أو ذاك، في صراعات جزئية، تشكل في النهاية امتدادا لصراعات الكبار.
نشر الغسيل
كما انعكس هذا الصراع على مستوى استهداف كل طرف لآخر، ونشر ملفات وأسرار تتعلق به، وهو كان له تأثير على الصورة العامة للحكومة، لأن كل الملفات التي يتم نشرها، بغض النظر عن الطرف المتضرر منها، تؤدي في النهاية للتأثير على الصورة العامة للحكومة.
وقد استفادت العديد من وسائل الإعلام من هذه الصراع، حيث وجدت ملفات فساد موثقة، وكواليس سرية، كانت ستبقى بعيدا عن متناولها لو كان الصراع غير موجود.
ما بعد 2019
ويتحدث العديد من المحللين، والمتابعين للشأن السياسي الموريتانيين، عن تجاوز هذه الصراعات للمرحلة الحالية، لتشكل تحضيرا لمرحلة ما بعد نهاية المأمورية الثانية لولد عبد العزيز، في العام 2019، وتؤكد أن هذه الصراعات لا تعدو أن تكون محاولة لبناء الذات، والإقناع بالنفس كقائد محتمل لموريتانيا خلال مرحلتها المقبلة.
ويستعرض هؤلاء – ما يصفونه – بمؤشرات على سعي هذه الشخصيات، التي تشترك كلها في عامل قوة القرب من الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز حاليا، مبرزين العديد من النقاط الدالة على ذلك، وذلك على النحو التالي:
1- مولاي ولد محمد الأغظف: حيث يعتمد ولد محمد الأغظف على شبكة علاقات واسعة داخل النظام وخارجه، نجح في نسجها خلال سنواته في الوزارة الأولى، وعززها من خلال منصبه الحالي في الوزارة الأمانة العامة للرئاسة، والتي تمنحه – فضلا عن العلاقات – معرفة للرئاسة عن قرب.
كما يعتمد ولد محمد الأغظف على انتمائه لخزان انتخابي كبير في الحوض الشرقي، وفي مناطق أخرى من البلاد، ويدلي بتجربة طويلة – نسبيا – في عمق السلطة، وعلى ثقة كبيرة يحظى بها لدى ولد عبد العزيز، انعكست في تكليفه بالعديد من الملفات، كان آخرها ملف الحوار السياسي مع منتدى المعارضة.
ومن نقاط قوته التي يستعرضها المتابعون قدرته على خلق انقسام داخل حكومة ولد حدمين، واحتفاظه بولاء العديد من أعضاء الحكومة رغم إبعادها عن قيادتها، فضلا عن علاقات متشعبة مع العديد من الإعلاميين.
أما أبرز نقاط ضعف ولد محمد الأغظف فهي اندفاعه في الصراع مع الوزير الأول، ما يدفع للاعتقاد أن طموحه لا يتجاوز العودة لهذا المنصب، وأن نظره لا يتجاوز لها هو وراءه، فضلا عن انتمائه لمجموعة كبيرة عدديا وقوية اقتصاديا، وهو ما يشكل نقطة قوة في هذا المضمار، لكنه في الآن ذاته عقبة، ونقطة ضعف.
2- سيد محمد ولد محم: يمتاز بنشاط حلفائه بشكل كبير، واعتمادهم إستراتيجية إعلامية مدمرة تجاه خصومه، لديه قدرة فائقة على التأثير على الفاعلين السياسيين، يحد منها – على ما يبدو - طريقة هيكلة الحزب الحاكم التي ورثها عن سلفه إسلك ولد إزيد بيه، ولم يتمكن بعد من تغييرها.
ينتمي لمجموعة قوية سياسيا وماليا، وتدين له بالولاء العديد من وسائل الإعلام، على رأسها اثنتين من وسائل الإعلام الرسمية، هما التلفزيون، والوكالة الرسمية، ويتحكم بشكل مطلق في الإعلام الحزبي، والقنوات القريبة منه.
أوجد الشباب المحسوبون عليه نافذة قوية له في الإعلام الجديدة، من خلال أسماء معروفة، وأخرى مستعارة، ودخل من خلال هؤلاء الشباب للتأثير في مستقبل المجلس الأعلى للشباب.
كسب خلال مسيرة في قيادة الحزب الحاكم العديد من أصحاب المطالب والقضايا من خلال اعتماده لخطاب يتبنى قضاياه، ويدافع عنها، سواء في مجال الاسترقاق، أو حراك المعلمين.
ركز ولد محم وإعلامه الحزبي على استخدام لقب "الرئيس المؤسس" على ولد عبد العزيز، وهو لقب يرى المتابعون أنه يمكن للرئيس أن يحتفظ به، حتى ولو كان خارج السلطة، وخصوصا إذا شكلت امتدادا للحكم الذي "أسسه".
يعتبر انتماء ولد محم لنفس المجموعة التي ينتمي لها رئيس موريتانيا الأسبق معاوية ولد الطايع أبرز نقاط ضعفه، حيث يشكل الأمر هاجسا بإمكانية عودة نظام ولد الطايع من خلاله، خصوصا وأن النظام الحالي يسوق نفسه بأنه قام على أنقاضه.
كما يحظى نظام ولد الطايع بولاء العديد من السياسيين البارزين، ويطالب بعضهم بعودته بشكل صريح، كما عاد بعضهم لتنظيم أنشطة تخليدية لذكرى وصوله للسلطة.
كما أن من نقاط ضعفه، ضعف تجربته في العمل الحكومي، فضلا عن كثرة خصومه داخل الرؤوس الكبيرة في الأغلبية، كخصومته مع الرئيس السابق للحزب الحاكم، وخلافاته المستحكمة مع حلف الوزير الأمين العام للرئاسة مولاي ولد محمد الأغظف، فضلا عن خصوماته زوجته خيرة بنت الشيخاني في الحقل الإعلامي، وخصوصا مع مدير الإذاعة محمد الشيخ ولد سيد محمد.
3- الشيخ ولد باي: عقدي متقاعد، كان يتولى رئاسة مندوبية الرقابة البحرية، ويرأس اليوم وفد المفاوضات الموريتاني مع الاتحاد الأوربي.
يتولى ولد باي عمدة مدينة الزويرات شمالي البلاد، ورئاسة رابطة العمد الموريتانيين، ويرتبط بعلاقة وثيقة مع الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز.
خلال حملته الانتخابية 2013، تحدث ولد باي عن حصوله على ملايير من الأوقية خلال رئاسته للمندوبية، مؤكدا أنه كان يحصل على نسبة 48% من عائدات العقوبات على السفن المخالفة، وهو ما أثار ضجة كبيرة في الإعلام، وفي مواقع التواصل الاجتماعي.
يضيف ولد باي لعلاقاته القوية بولد عبد العزيز، خلفية عسكرية تضمن له علاقات مع العديد من العسكريين السابقين والحاليين، كما يعتمد على قوة مالية كبيرة.
ولعل أبرز نقاط ضعفه الصورة غير الناصعة التي تشكلت له لدى الرأي العام بعد الفيديو الذي يتحدث فيه عن حصوله على ملايير الأوقية بشكل شهري ولعدة سنوات، وهو الفيديو الذي تناقلته هواتف الموريتانيين، وتداولوه على نطاق واسع.
4- محسن ولد الحاج: رئيس مجلس الشيوخ الحالي، وشيخ مقاطعة روصو، يعتمد الرجل في طموحها، على قرابته من الرئيس محمد ولد عبد العزيز، وعلاقته الوطيدة به، وكذا شبكة علاقاتها في الطبقة السياسية، والتي توسعت خلال الفترة الأخيرة لتصل المعارضين.
يستند إلى منصبه الذي يشكل نائبا مفترضا للرئيس في حال شغور المنصب دستوريا، كما يحتفظ بعلاقات وطيدة بالعديد من الشخصيات ذات الثقل السياسي الكبير.
وخارج هذه الشخصيات السياسية يسجل حضور متفاوت لعدة شخصيات عسكرية، وقادة أركان ولواءات في الجيش في مضمار الصراع متعدد الأطراف داخل الأطياف المشكلة للحزب الحاكم، والدائرة في فلك الشق الرسمي من النظام.
حرب "فيسبوك"
وتشكل مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصا فيسبوك إحدى ساحات التنافس الرئيسية بين هذه الشخصيات، وخصوصا من خلال الأسماء المستعارة، حيث تزايدت الصفحات التي تحمل أسماء مستعارة وتستجلب المتابعين من خلال نشر أسرار من عمق السلطة بشكل ملفت.
وتعمد هذه الحسابات إلى انتقاد الرئيس ولد عبد العزيز أو النظام من حين لآخر لإعطاء صبغة معارضة لصاحب الحساب، وتتم كتابة معلومات عن الشخصيات المستهدفة على أنها معلومات وأسرار عن النظام.
وكشف تكاثر هذه الحسابات عن جهد غير عشوائي، وعن وقوف جهات وراءها تسعى لتحقيق أهداف محددة، تلمع الحلفاء، أو تحطم الخصوم، وكان لافتا أن إحدى هذه الصفحات كانت خلال مرحلة من مراحلها تروج لبرنامج "مساء الخير" الذي يبثه "تلفزيون الموريتانية" الحكومي.
وتركز هذه الصفحات بشكل لافت على العديد من الشخصيات داخل النظام، وخصوصا رؤوس الصراع (مولاي ولد محمد الأغظف، يحي ولد حدمين، سيد محمد ولد محم، إسلكو ولد إزيد بيه، الشيخ ولد بايه) إضافة لشخصيات أخرى لها أدوار فيها، كمدير إذاعة موريتانيا محمد الشيخ ولد سيد محمد، ومدير ديوان الرئيس أحمد ولد باهيه، وحرم ولد عبد العزيز تكيبر بنت أحمد، وقائد أركان الحرس مسغارو ولد اغويزي، والمدير المساعد لوكالة تشغيل الشباب عبد الفتاح ولد حبيب.