جولة في الجنة (مقال من كتاب / ج1) / سيد محمد ولد اخليل

ما رأيك عزيزي القارئ في جولة في دار الله الغالية التي أعد لعباده الصالحين، جعلنا الله وإياك من أهلها.. ما رأيك في استراحة قصيرة مع أخبار تريحك قليلا من عفن هذه الأخبار والأحزاب..
قال ابن القيم رحمه الله: "الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده المؤمنين نزلا،ويسرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها.. خلقها لهم قبل أن يخلقهم، وأسكنهم إياها قبل أن يوجدهم.. وجعل ميعاد دخولها يوم القدوم عليه، وضرب مدة الحياة الفانية دونه أجلا، وأودعهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. فألقى أكثر الناس الحِمل عن ظهورهم لشدة مؤنته عليهم وثقله، فصحبوا الدنيا صحبة الأنعام السائمة، لا ينظرون في معرفة موجدهم وحقه عليهم، ولا في المراد من إيجادهم وإخراجهم إلى هذه الدار التي هي طريق ومعبر إلى دار القرار، ولا يتفكرون في قلة مقامهم في الدنيا الفانية وسرعة رحيلهم إلى الآخرة الباقية.. خدعهم طول الأمل، وران على قلوبهم سوء العمل، فهمهم في لذات الدنيا وشهوات النفوس كيف حصلت حصلوها، ومن أي وجه لاحت أخذوها..  فوا عجبا لها كيف نام طالبها، وكيف لم يسمح بمهرها خاطبها، وكيف طاب العيش في هذه الدار بعد سماع أخبارها..
قال:
فلله ما في حشوها من مسرة ... وأصناف لذات بها يتنعم
ولله برد العيش بين خيامها ... وروضاتها والثغر في الروض يبسم

عزيزي القارئ، الجنة فوق ما يخطر بالبال أو يدور في الخيال:
قال تعالى: "تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: "قال رسول الله: لقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما طلعت عليه الشمس أو تغرب"..

من يستحق البشارة بالجنة:
قال الله تعالى: "وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ". وقال تعالى: "أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ". وقال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ".
وهذا في القرآن كثير، مداره على ثلاث قواعد: إيمان وتقوى وعمل خالص لله على موافقة السنة (أقول: يجب الحذر من البدع، ومن قبول كلام الأواخر مما خالفوا فيه الأوائل في الدين)..
(ومما أجمع عليه أهل السنة أن) الحور العين لا يمتن عند قيام الساعة، ولا عند النفخة، ولا أبدا لأن الله عز وجل خلقهن للبقاء لا للفناء، ولم يكتب عليهن الموت، فمن قال خلاف هذا فهو مبتدع ضل عن سواء السبيل..

عرض الله سبحانه وتعالى سلعته الجنة على عباده وثمنها:
قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ". فجعل سبحانه هاهنا الجنة ثمنا لنفوس المؤمنين وأموالهم بحيث إذا بذلوها فيه استحقوا الثمن، وعقد معهم هذا العقد وأكده بأنواع من التأكيد..
والجنة إنما تُدخل برحمة الله تعالى وليس عمل العبد مستقلا بدخولها وإن كان سببا..

طُرق الجنة توحدت في طريق واحد:
هذا مما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم، وأما طُرق الجحيم فأكثر من أن تحصى، ولهذا يوحد سبحانه سبيله ويجمع سبل النار كقوله تعالى: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، وقال: "هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ"..

الجنة موجودة الآن:
هذا مما اتفقت عليه الأمة استنادا إلى نصوص الكتاب والسنة، وما علم بالضرورة من أخبار الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم فإنهم دعوا الأمم إليها وأخبروا بها. ودل على وجودها الآن من القرآن قوله تعالى: "وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى"، وقد رأى النبي سدرة المنتهى، ورأى عندها جنة المأوى.
وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت: "خسفت الشمس في حياة رسول الله، فذكرت الحديث إلى أن قالت ثم قام فخطب الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة"، وقال رسول الله: "رأيت في مقامي هذا كل شيء وُعدتم حتى لقد رأيتني آخذ قطفا من الجنة حين رأيتموني أقدم، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها حين رأيتموني تأخرت"..

أين هي الجنة الآن؟:
إنها موجودة، أما مكانها ففي السماء، قال الله تعالى: "وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى"، وقد ثبت أن سدرة المنتهى فوق السماء، وسميت بذلك لأنها ينتهي إليها ما ينزل من عند الله فيقبض منها، وما يصعد إليه فيقبض منها.
وقال تعالى: "وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ"، قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: "هو الجنة"، وكذلك تلقاه الناس عنه..
والجنة مقببة، أعلاها وأوسعها ووسطها هو الفردوس وسقفه العرش كما قال في الحديث الصحيح "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة"..
وقد ثبت في الصحيحين عنه أنه قال: "الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض"، وهذا يدل على أنها في غاية العلو والإرتفاع، والله أعلم.

الجنة أبدية لا تفنى ولا تبيد:
هذا مما يعلم بالإضطرار أن الرسول أخبر به، قال تعالى: "وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ" أي غير مقطوع، ولا تنافي بين هذا وبين قوله "إلا ما شاء ربك"، واختلف السلف في هذا الإستثناء..
فقالت طائفة: هم الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة. وقالت فرقة أخرى: هو مدة احتباسهم عن الجنة ما بين الموت والبعث. وقالت فرقة أخرى: الزمان بمدة دوام السماوات والأرض في هذا العالم... إلخ

أهل الجنة يطلبونها من ربهم وهي تطلبهم:
قال الله تعالى حكاية عن أولي الألباب من عباده قولهم "رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ". والمعنى: وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رسلك من دخول الجنة..

هل الجنة التي أسكنها آدم عليه الصلاة جنة الخلد أو جنة أخرى على الأرض؟:
اختلفوا في ذلك، فقال القائلون بأنها جنة الخلد: وصف سبحانه جنة آدم بصفات لا تكون إلا في جنة الخلد فقال: "إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى"، وهذا لا يكون في الدنيا أصلا.. وذكروا حججا أخرى..
وقال القائلون بأنها جنة أخرى غير جنة الخلد: قد أخبر الله سبحانه على لسان جميع رسله أن جنة الخلد إنما يكون الدخول إليها يوم القيامة، ولم يأت زمن دخولها بعد، وقد وصفها الله سبحانه وتعالى لنا في كتابة بصفاتها، ومحال أن يصف الله سبحانه وتعالى شيئا بصفته ثم يكون ذلك الشيء بغير تلك الصفة التي وصفه بها. قالوا: فوجدنا الله تعالى وصف الجنة التي أعدت للمتقين بأنها جنة الخلد، ووصفها بأنها دار سلامة مطلقة لا دار ابتلاء وامتحان، وقد ابتلى آدم فيها بأعظم الإبتلاء... إلخ.
وأجابهم أصحاب القول الأول بإجابات منها أن الدخول الذي يخلد به صاحبه في الجنة يكون يوم القيامة، ولا يمتنع دخولها العارض فقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء..
وقالوا: وأما احتجاجكم بسائر الوجوه التي ذكرتموها في الجنة وأنها لم توجد في جنة آدم عليه السلام من العرى والنصب والحزن واللغو والكذب وغيرها، فهذا إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة كما يدل عليه سياق الآيات كلها..

أسماء الجنة ومعانيها واشتقاقها:
الإسم الأول: الجنة، وهو الاسم العام المتناول لتلك الدار، وأصل اشتقاق هذه اللفظة من الستر والتغطية، ولا يستحق هذا الاسم إلا موضع كثير الأشجار مختلف الأنواع.
الإسم الثاني: دار السلام، وقد سماها الله بهذا الاسم في قوله: "لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ". وهي أحق بهذا الاسم فإنها دار السلامة من كل بلية وآفة ومكروه..
الإسم الثالث: دار الخلد، وسميت بذلك لأن أهلها لا يظعنون عنها أبدا كما قال تعالى: "وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ"..
الإسم الرابع: دار المُقامة، قال تعالى حكاية عن أهلها: "وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ". قال مقاتل: "أنزلنا دار الخلود. أقاموا فيها أبدا لا يموتون ولا يتحولون منها أبدا"..
الإسم السادس: جنات عدن، قيل هي اسم لجنة من الجنان، والصحيح أنه اسم لجنة الجنان، وكلها جنات عدن، قال تعالى: "جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ"..
الإسم السابع: دار الحيوان، قال تعالى: "وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ"، والمراد الجنة عند أهل التفسير، قالوا: أي لهي دار الحياة التي لا موت فيها. وأهل اللغة على أن الحيوان بمعنى الحياة..
الإسم الثامن: الفردوس، قال تعالى: "أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ". والفردوس يقال على جميع الجنة، ويقال على أفضلها وأعلاها. قال كعب: هو البستان الذي فيه الأعناب.
الإسم التاسع: جنات النعيم، قال تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ". وهذا أيضا اسم جامع لجميع الجنات لما تضمنته من الأنواع التي يُتنعم بها من النعيم الظاهر والباطن.
الاسم العاشر: المقام الأمين، قال تعالى: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ". والمقام الأمين موضع الإقامة الآمن الذي جمع صفات الأمن كلها، فهو آمن من الزوال والخراب وأنواع النقص، وأهله آمنون فيه من الخروج والنغص والنكد.
الإسم الحادي عشر والثاني عشر: مقعد الصدق وقدم الصدق، قال تعالى: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر"، فسمى جنته مقعد صدق لحصول كل ما يراد من المقعد الحسن فيها كما يقال مودة صادقة إذا كانت ثابتة تامة.. ومدخل الصدق ومخرج الصدق هو المدخل والمخرج الذي يكون صاحبه فيه ضامنا على الله، وهو دخوله وخروجه بالله ولله، وهذه الدعوة من أنفع الدعاء للعبد.

الجنة نوعان جنتان من ذهب وجنتان من فضة:
الجنة اسم شامل لجميع ما حوته من البساتين والمساكن والقصور، وهي جنات كثيرة جدا، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري عن رسول الله أنه قال: "جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما". وقد قال تعالى: "وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ" فذكرهما ثم قال: "وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ"، فهذه أربع.
وقد اختلف في قوله "ومن دونهما"، والسياق يدل على تفضيل الجنتين الأوليين من عشرة أوجه، منها قوله "ذواتا أفنان"، أي ذواتا أصناف شتى من الفواكه وغيرها، ولم يذكر ذلك في اللتين بعدهما. ومنها قوله "فيهما عينان تجريان" وفي الأخريين "فيهما عينان نضاختان" والنضاخة هي الفوارة والجارية السارحة، وهي أحسن من الفوارة فإنها تتضمن الفوران والجريان..

خلق الرب تبارك وتعالى بعض الجنان وغرسها بيده تفضيلا لها على سائر الجنان:
وقد أتخذ الرب تعالى من الجنان دارا اصطفاها لنفسه وخصها بالقرب من عرشه وغرسها بيده فهي سيدة الجنان..

درجات الجنة:
قال تعالى: "وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا * دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا".
ذكر ابن جرير عن هشام ابن حسان عن جبلة بن عطية عن أبن محيريز قال: "هي سبعون درجة، ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين عاما" (صحيح).
وفي الصحيحين من حديث مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم، قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".
وسميت درجة النبي "الوسيلة" لأنها أقرب الدرجات إلى عرش الرحمن وهي أقرب الدرجات إلى الله، وأصل اشتقاق لفظ الوسيلة من القُرب..

أصناف أهل الجنة الذين ضمنت لهم دون غيرهم:
قال تعالى: "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ"، فأخبر أنه أعد الجنة للمتقين دون غيرهم، ثم ذكر أوصاف المتقين..
وقال تعالى: "وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"، فأخبر تعالى أنه أعدها للمهاجرين والأنصار وأتباعهم بإحسان، فلا مطمع لمن خرج عن طريقتهم فيها (فابحث عن العمل الثابت عنهم ودع عنك البدع إن كنت من أهلها تسلم).
وبالجملة فأهل الجنة أربعة أصناف ذكرهم الله سبحانه وتعالى في قوله: "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا" فنسأل الله أن يجعلنا منهم بمنه وكرمه (اللهم آمين)..

أكثر أهل الجنة هم أمة محمد:
في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله: "إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة".. وعن بريدة بن الحصيب قال: "قال رسول الله: أهل الجنة عشرون ومائة صف، هذه الأمة منها ثمانون صفا" (إسناده صحيح).

النساء في الجنة أكثر من الرجال، وكذلك هم في النار:
(فالنساء) في الجنة أكثر بالحور العين اللائي خُلقن في الجنة، وأقل ساكنيها نساء الدنيا، فنساء الدنيا أقل أهل الجنة وأكثر أهل النار، أما كونهن أكثر أهل النار فلِما روى البخاري في صحيحه من حديث عمران بن حصين قال: "بلغني أن رسول الله قال: اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء، واطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء"..

من يدخل الجنة من هذه الأمة بغير حساب:
في الصحيحين من حديث سهل بن سعد أن رسول الله قال: "ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب أو سبعمائة ألف آخِذ بعضهم ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر". فهذه هي الزمرة الأولى وهم يدخلونها بغير حساب، والدليل عليه ما ثبت في الصحيحين والسياق لمسلم: "فخرج عليهم رسول الله، فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه، فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم، ثم قام رجل آخر فقال: أدع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة".
فإن قيل: فعائشة قد رقيت رسول الله، وجبريل قد رقاه. قيل: أجل ولكنه لم يسترق، وهو صلى الله عليه وسلم لم يقل: ولا يرقيهم راق، وإنما قال: لا يطلبون من أحد أن يرقيهم..

حثيات الرب تبارك وتعالى الذين يدخلهم الجنة:
قال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن زياد قال سمعت أبا إمامة الباهلي يقول: "سمعت رسول الله يقول: وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب مع كل ألف سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب، وثلاث حثيات من حثيات ربي" (إسناده حسن)..

أول الأمم دخولا الجنة:
هذه الأمة أسبق الأمم خروجا من الأرض، وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف، وأسبقهم إلى ظل العرش، وأسبقهم إلى الفصل والقضاء بينهم، واسبقهم إلى الجواز على الصراط، وأسبقهم إلى دخول الجنة..

السابقون من هذه الأمة إلى الجنة وصفتهم:
في الصحيحين من حديث همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يتغوطون فيها ولا يتمخطون فيها، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم الألوة، ورشحهم المسك، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا" (الألوة: العود الذي يُتبخر به) (أقول: هذه هي الحياة التي ينبغي أن يطمح إليها المسلم، ليست حياة الدنيا التي يتمسك الأشقياء بعداواتها وتباغضها وتحاسدها ومظالمها)..

سبق الفقراء الأغنياء إلى الجنة:
قال الإمام أحمد حدثنا عفان ~ عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام" (صحيح)..
ولا يلزم من سبقهم لهم في الدخول ارتفاع منازلهم عليهم، بل قد يكون المتأخر أعلى منزلة وإن سبقه غيره في الدخول، والدليل على هذا أن من الأمة من يدخل الجنة بغير حساب، وهم السبعون ألفا، وقد يكون بعض من يحاسب أفضل من أكثرهم، والغني إذا حوسب على غناه فوُجد قد شكر الله تعالى فيه كان أعلى درجة من الفقير الذي سبقه في الدخول..

عدد أبواب الجنة:
قال الله تعالى: "وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ". وقال في صفة النار: "حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها" بغير واو لأن الملائكة تسوق أهل النار إليها وأبوابها مغلقة حتى إذا وصلوا إليها فتحت في وجوههم فيفجأهم العذاب بغتة لأنها دار الإهانة والخزي فلم يستأذن لهم في دخولها، وأما الجنة فإنها دار الله ودار كرامته ومحل خواصه وأوليائه فإذا انتهوا إليها صادفوا أبوابها مغلقة فيرغبون إلى صاحبها ومالكها أن يفتحها لهم ويستشفعون إليه بأولي العزم من رسله، فيشفع لهم خاتمهم وسيدهم وأفضلهم..
وتأمل ما في سوق الفريقين إلى الدارين زمرا من فرحة هؤلاء بإخوانهم وسيرهم معهم كل زمرة على حدة، كل مشتركين في عمل متصاحبين فيه، مستبشرين أقوياء القلوب كما كانوا في الدنيا وقت اجتماعهم على الخير، كذلك يؤنس بعضهم بعضا ويفرح بعضهم ببعض. وكذلك أصحاب الدار الأخرى يساقون إليها زمرا يلعن بعضهم بعضا ويتأذى بعضهم ببعض، وذلك أبلغ في الخزي والفضيحة والهتيكة من أن يساقوا واحدا واحدا..
وقال خزنة أهل الجنة لأهلها "سلام عليكم"، فبدؤوهم بالسلام المتضمن للسلامة من كل شر ومكروه، ثم قالوا لهم "طبتم فادخلوها خالدين"، فبشروهم بالسلامة والطيب والدخول والخلود. وأما أهل النار فإنهم لما انتهوا إليها على تلك الحال من الهم والغم والحزن وفتحت لهم أبوابها وقفوا عليها وزيدوا على ما هم عليه توبيخ خزنتها وتبكيتهم لهم بقولهم "أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا"، فاعترفوا وقالوا "بلى"، فبشروهم بدخولها والخلود فيها وأنها بئس المثوى لهم..
وتأمل قوله سبحانه "جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ" كيف تجد تحته معنى بديعا وهو أنهم إذا دخلوا الجنة لم تغلق أبوابها عليهم بل تبقى مفتحة كما هي، وأما النار فإذا دخلها أهلها أغلقت عليهم أبوابها كما قال تعالى "إنها عليهم مؤصدة" أي مطبقة، فهي مؤصدة في عمد ممددة، قد جعلت العمد ممسكة للأبواب من خلفها كالحجر العظيم الذي يُجعل خلف الباب. قال مقاتل: "يعني أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لها باب ولا يخرج منها غم ولا يدخل فيها روح آخر الأبد.
وأيضا فإن في تفتيح الأبواب لهم إشارة إلى تصرفهم وذهابهم وإيابهم وتبوئهم في الجنة حيث شاؤوا، ودخول الملائكة عليهم كل وقت بالتحف والألطاف من ربهم، ودخول ما يسرهم عليهم كل وقت، وأيضا إشارة إلى أنها دار أمن لا يحتاجون فيها إلى غلق الأبواب كما كانوا يحتجون إلى ذلك في الدنيا..
أما سعة أبوابها: فعن أبي هريرة قال: "وضعت بين يدي رسول الله قصعة من ثريد ولحم"، فذكر حديث الشفاعة بطوله، وفي آخره: "قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصارع الجنة لكما بين مكة وهجرا وهجر ومكة"، وفي لفظ "لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى" متفق على صحته.
أبواب الجنان بعضها فوق بعض:
ولما كانت الجنات درجات بعضها فوق بعض كانت أبوابها كذلك، وباب الجنة العالية فوق باب الجنة التي تحتها، وكلما علت الجنة اتسعت فعاليها أوسع مما دونه، وسعة الباب بحسب وسع الجنة..
وقال خلف بن هشام البزار ثنا أبو شهاب عن عمرو بن قيس الملائي عن أبي إسحاق عن عاصم بن حمزة عن علي بن أبي طالب قال: إن أبواب الجنة هكذا بعضها فوق بعض ثم قرأ "حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها"، إذا هم عندها بشجرة في أصلها عينان تجريان فيشربون من إحداهما فلا يترك في بطونهم قذى ولا أذى إلا رمته، ويغتسلون من الأخرى فتجري عليهم نضرة النعيم فلا تشعث رؤوسهم ولا تغير أبشارهم بعد هذا أبدا، ثم قرأ "طبتم فادخلوها خالدين"، فيدخل الرجل وهو يعرف منزله ويتلقاهم الولدان فيستبشرون برؤيتهم كما يستبشر الأهل بالحميم يقدم من الغيبة، فينطلقون إلى أزواجهم فيخبرونهم بمعاناتهم، فتقول أنت رأيته، فيقوم إلى الباب فيدخل إلى بيته فيتكئ على سريره فينظر إلى أساس بيته فإذا هو قد أسس على اللؤلؤ ثم ينظر في أخضر وأحمر وأصفر ثم يرفع رأسه إلى سماء بيته فلولا أنه خلق له لا لألتمع بصره، فيقول: "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله"، والله أعلم.

يتبع في الجزء الثاني إن شاء الله (وهو مختصر من ملخص لكتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لإبن القيم رحمه الله، جاهز للتحميل)..