إبّان الثورة الفرنسية قام الجلّاد هنري شارل سانسون(Charles-Henri Sanson) بعمليات إعدام تهدف الى قطع دابر أعداء الثورة الفرنسية؛.. فـي إحدى هذه المهمات القــذرة كانت العربة تحترق ميدان الجمهوريـة وسـط حشود صاخبة ومتوترة وكان الدوق دو شاروست (Chârost de duc)- "1800-1738" داخـل هذه العربـة !.. كان يطالع أحد الكتب الهامة..، كان كمن لا يبالي بالمصير !!؟
طلبوا منه صعود الدرج نحو مقصلة الإعدام فـي تلك اللحظـة أكمل قراءة الفقرة التي كانت بيـن ناظريـه ثـم ثنى زاوية الصفحة التي كان يطالعها، وتوثب نحو المقصلـة؟.
إلـى هذه الدرجـة كان مؤيدي الملكية من كبار العسكريین و الدوقات والنبلاء و وجهاء "فرنسا الأعماق" شغوفين بالأدب والكتاب والتوثيق، والطريف أن هذه القصـة أوردتها مذكرات الجلاد الفرنسي هنـري شارل سانسون (1806- 1739) ! وأنا أردت نقلها بمناسبة تجدد الحديث عن "تاريخ جيل التأسيس" من قبـل بعض الكتاب المُولعين بالتاريـخ غير المكتوب وتعارضاتـه الشفاهية.
كتاب "موريتانيا المعاصرة : شهادات ووثائق" للباحث والدكتور سيد أعمر ولد شيخنا، هـي كتاب مهـم وقد بذل فيه صاحبه جهدا معتبرا ولكنـه يعـد نموذجا للسرديات التاريخيـة المعنية بالسياقات السوسيو-ثقافية الموريتانية، وبـودي الإشـارة إلى أن طبعته الثانية تحوي معلومات وُصِفَتْ بأنها "مثيرة وتنشر لأول"؛ مما يجعل التساؤل وارادا هنا هل يمكن لكتاب التاريخ الجري وراء الإثارة والسبـق؟ أم هـي أساليب تتعلق بالتحريات وما يفرض على المهتمين بها من أدبيات تتضمن ذكر المصادر والاسماء وحجم انتشار السرديات والروايات واتفاق معاصريها من عدمه ومناقشـة وجاهـة تلك المرويات ومقارنتها بالمراجـع الفرنسية والموريتانية والماليـة-ان وجدت-؛ على كل حال فإن الجهـد الاستقصائي للكتاب يقـوده إلـى أن "الذين أُعْدِمُوا في قضية "اعمارة النّعمه" أبرياء والفاعل يعيش في أوروبا حتى اليوم !"، وفـي التفاصيل الخبريـة لا نجـد ما يَرْدِمُ فُضولنا كثيـرا ! ونفس الشيء ينطبق علـى "المؤامرة على الأمير محمد فال ولد عمير" والتـي أعتقـد أن الكـاتب قـد سقط من خلالها في وحـل حكايات الجداتْ !، ولو كنت أقرء لكاتب غير موريتانيا مهتم بالعلوم السياسيـة لملف تجاذبات موريتانيا بين العراق وفرنسا لتمكنت من متابعـة تحليـل سياسي يركـن الـى عناصر موضوعية مترابطة ومنسجمـة، لكـن في الحالة الموريتانية سنتابع مرويـة تستند إلـى الاختلاق والإثارة حتما !.
لست باحثا في التاريـخ ولا أنا بالمهتم بتفاصيل تاريـخ لا يزال يكتب حسب الطلب والأهواء وربما المقاس، لكنني أشفق على الباحث والدكتور سيد أعمر ولد شيخنا فهـو يبحث في بيئة قاحلـة وشريرة فقـد دمر فيها الإنسان الموريتاني كل شيء ولم يترك أثرا يدل على أنه الفاعل حتـى لا تشهد الكتابات علي آثاره ومسيرته وربما جناياته !.
فإذا كانت الإدارة الاستعمارية (الجلاد) قـد دونت كل شيء حتى وإن أحتسب ضدها أحيانا ! فإن الإدارة الوطنية لـم تترك أثرا يراد لنا أن نعتـد به فالأحكام القضائية تم العبث بها حتـى لا تسقط أعيننا على تفاصيلها، وأحيانا عُني بتوزيـع الوثائق الهامـة على ماعز انواكشـوط حتـى إذا ما احتاج باحث اليها وجدها منزوعة من سجلاتها.
أما بعض الإداريين المهرة فقـد تمكنوا من اقتــلاع وسرقـة كل الوثائقية الارشيفية التي تحوي ذكرا أو خبرا عن مهمة أو مهام ترتبط بهم، وما بقـي يراد لنا ألا نصدق مضامينه وأن نُقبل على الأحجيات التـي ترويها القبائـل عـن أبنائها من الإداريين السابقين والمعاصرين.
إن اهم ما يميز الفرد في المجتمع الموريتاني هو مراعاته وحرصـه على نَتْفِ مذكراته وسِتْرِ أرشيفه واختلاق روايـات مروية وشفاهية بديلة؛ يتوجب على الأجيال اللاحقـة تصديق محتوياتها.
ثـم إن كل ما يكتب في هذه الربـوع، (لا يهم كاتبه ولا درجته العلمية ولا مواقفه الأخلاقية) سيصبح مصـدرا موثوقا فيه خاصـة إذا كانت القوة الماديـة تعضده وتسنده !
حتـي الآن، ما يكتب من تاريخنا المعاصـر مجرد انطباعات شخصية وأحيانا مانفستات قبليـة او جهويـة..!
نرغب في المستقبل؛ في أن يتحلـى كتابنا الفضلاء بجرأة الموسييه هنري شارل سانسون حيـن يودون - على الأقـل - كتابة تاريخنا المعاصـر؟
نحتاج لعائلـة مـن الكتاب المهرة و الوطنيين ثم أن يكونوا من غير المزاجيين بل موضوعيين وأن يكون من شأنهم مراعاة وعينا كمتلقين جدد !