رفع رئيس حزب الوئام في السنوات الماضية شعار "المعارضة المسؤولة"، وكأنه بذلك أراد أن يقول بأن أي معارضة أخرى غير معارضته ليست بالمعارضة المسؤولة. وأذكر بأني كنتُ قد اقترحتُ في وقت سابق على رئيس حزب الوئام بأن يبدل شعار معارضته المسؤولة بشعار "الموالاة المسؤولة"، فهذا
الشعار الأخير كان ـ ولا يزال ـ هو الأنسب لحزب الوئام ولرئيسه.
كان هذا الشعار ـ ولا يزال ـ هو الأكثر انسجاما مع حزب الوئام ومع مواقف رئيسه الذي أظهر خلال السنوات الماضية ولاءً للرئيس "محمد ولد عبد العزيز" أشد من ولاء رؤساء الحزب الحاكم الذين تعاقبوا على رئاسته، فكان السيد "بيجل" يَظهر وهو يتصبب عرقا خلال استقبالاته للرئيس عزيز في "كرمسين"، وكان يُظهر من الحفاوة بالرئيس ما يجعل من استقبالات الحزب الحاكم لرئيسه المؤسس مجرد احتفالات باهتة تتسم بالكثير من الجفاء.
وفي السنوات الماضية ظل الرئيس "بيجل" يرفع بطاقته الحمراء عند أي دعوة لأي حوار جديد مع المعارضة، وكان في هذه الجزئية أكثر تشددا وتصلبا من رئيس الحزب الحاكم، ولكن، وعلى الرغم من كل ذلك، فقد تمت مضايقة حزب الوئام، وتم إجبار عمدته في "روصو" مع عشرة من مستشاري الحزب على الاستقالة، وذلك من قبل أن يتم نشر بيان شديد اللهجة يصف السيد "بيجل" بأنه سارق ومختلس للمال العام.
حاول الرئيس "بيجل" أن يكون مواليا بثوب معارض مغشوش، ولكن النظام لم يقبل منه ذلك، ولم يقبل منه أن يكون معارضا مسؤولا، حتى ولو كانت معارضته مغشوشة ولصالح النظام.
لم يسلم رئيس حزب الوئام من المضايقة، وذلك على الرغم من الخدمات الجليلة التي كان يقدمها للسلطة الحاكمة، وهو مرتديا ثوبه المعارض المغشوش، ولم يكن رئيس حزب الوئام هو الوحيد الذي قوبلت خدماته الجليلة للسلطة بمضايقات غير مبررة وغير مفهومة. إن هناك أمثلة أخرى تتعلق بأحزاب معارضة أخرى، ولكن ومن قبل الإشارة إلى تلك الأمثلة، فإني أرى بأنه من الضروري في هذا المقام، أن أذكر خصلة تميز بها رئيس حزب الوئام عن غيره من السياسيين الموريتانيين. لقد بقي الرجل وفيا للرئيس "ولد الطايع"، وظل يعبر عن ذلك، منذ انقلاب 3 أغسطس 2005 وحتى يومنا هذا، وكانت تلك خصلة سياسية تميز بها الرئيس "بيجل" عن غيره من رجال نظام "ولد الطايع".
إن هناك ظاهرة محيرة في سلوك الرئيس "محمد ولد عبد العزيز"، وأتمنى من أهل الاختصاص أن يدرسوها بتأمل، وأن يبحثوا لها عن تفسير، فالرئيس "محمد عبد العزيز" يسارع دائما للرد بقسوة وبجفاء على كل من يسارع بتقديم خدمات جليلة له. إن حالة حزب الوئام لم تكن حالة فريدة من نوعها، فالرئيس "محمد ولد عبد العزيز" قد تعود على أن لا يضايق من أحزاب المعارضة إلا تلك الأحزاب التي تقدم لنظامه خدمات جليلة، ومن الغريب جدا أنه لا يضايقها إلا في تلك الفترات التي تقدم له فيها تلك الخدمات، هذا هو ما حدث مع حزب الوئام، وهذا هو مع حدث أيضا مع حزب التحالف ومع رئيسه الذي وقف بقوة ضد إرهاصات الربيع العربي في موريتانيا، كما وقف مع الرئيس عزيز خلال فترة علاجه في فرنسا بعد إصابته في "أطويله"، هذا فضلا عن كونه كان من أبرز المشاركين في حوار 2011 . كل هذه الخدمات الجليلة تم الرد عليها من طرف السلطة الحاكمة بجهود كانت تسعى في مجملها إلى التشكيك والمس بالمكانة الوطنية والتاريخية التي يحظى بها رئيس "مسعود"، وذلك من خلال إضعاف حزبه، ومن خلال خلق منافسين جدد لهذا الزعيم. شيء مثل هذا سيحصل مع حزب تواصل، والذي تلقى من النظام القائم ضربات قاسية تم توجيهها لهذا الحزب مباشرة بعد مشاركته من بين كل أحزاب المنسقية في انتخابات 2013، وتمثلت تلك الضربات القاسية في إغلاق جمعية المستقبل وفي مضايقة الشيخ "محمد الحسن الددو" هذا فضلا عن مضايقات أخرى لا يتسع المقام لبسطها. سيتكرر الشيء نفسه مع حركة "إيرا" ومع قائدها، فما كاد رئيس هذه الحركة يكمل مهمته في تشريع الانتخابات الرئاسية الماضية التي قاطعتها كل أحزاب المعارضة تقريبا، حتى شرعت السلطة في تفكيك الحركة، وألقت برئيسها ونائبه في غياهب السجون. ومن قبل مضايقة أحزاب تواصل والتحالف والوئام وحركة "إيرا" في أيام كان من المفترض بها أن تكون أيام ود، تجرع حزب عادل من الكأس نفسها، وفي الفترة التي كان فيها الحزب قد قرر فيها أن ينضم إلى الأغلبية الرئاسية، ومن قبل ذلك كله نال حزب التكتل وحاتم نصيبهما من المضايقات، وذلك على الرغم من مساندتهما لانقلاب السادس من أغسطس. إنها ردود أفعال غريبة يصعب تفسيرها بمنطق سياسي سليم، ولكن هناك ما هو أغرب من ردود الأفعال هذه، وأصعب تفسيرا، ويتعلق الأمر هنا بتلك المضايقات التي يمارسها الرئيس عزيز ضد موالاته، وأقول موالاته، وأكرر موالاته، وخاصة منها من كان قد تطرف في موالاته، أو أظهر دعما قويا للرئيس في أوقات العسر والشدة.
ومن أبرز الأمثلة على مضايقة الرئيس لكبار داعميه تظهر حالة رجل الأعمال "محمد ولد بوعماتو"، والذي كان قد استخدم شبكة علاقاته الواسعة لتسويق انقلاب 6 أغسطس، وأنفق من بعد ذلك أموالا طائلة على حملة الرئيس عزيز في رئاسيات 2009، ومع ذلك فستتعرض الشركات والمؤسسات التجارية لهذا الداعم الكبير لأصناف شتى من المضايقات ومن الحصار. لقد قدم رجل الأعمال "محمد ولد بوعماتو" خدمات جليلة للرئيس عزيز في أوقات العسر والشدة، وعلى الرغم من ذلك فسيتعرض الرجل لمضايقات شديدة أجبرته على مغادرة بلده للإقامة في المملكة المغربية، وعلى ذكر المملكة الغربية فإنها هي أيضا كانت ضحية لما قدمت من خدمات جليلة لتشريع انقلاب عزيز، ولتثبيت أركان نظامه. لقد اتهمت المملكة المغربية من طرف مناهضي انقلاب 6 أغسطس بالشراكة في الانقلاب، أو على الأقل، بالمبالغة في دعمه، وهناك أدلة كثيرة تدعم ذلك الاتهام، ولكن وعلى الرغم من كل ذلك، فستعرف العلاقات الموريتانية المغربية، وعلى العكس مما كان متوقعا لها، فتورا وتدهورا كبيرا في عهد الرئيس عزيز، وحسب ظواهر الأمور فإن الرئيس عزيز كان هو من تسبب في ذلك التدهور.
ومن الأمثلة التي يمكن أن نقدمها في هذا السياق تأتي حالة الدكتور "الشيخ المختار ولد حرمة"، فهذا الرجل الذي توفرت فيه الكثير من الميزات التي لم تتوفر لدى غيره: قلم سيال؛ ميراث سياسي كبير تركه له والده؛ عيادة توفر له دخلا محترما؛ تاريخ نضالي في صفوف المعارضة الموريتانية. هذه الميزات الأربع لو استغلها الدكتور استغلالا حسنا لرفعته مكان عليا، ولجعلت منه واحدا من أهم رجالات موريتانيا، ولكن الرجل سيضحي بكل تلك الميزات وسيسخرها للدفاع عن الرئيس عزيز، وللتهجم على معارضيه بأسلوب لا يليق بمراهق في السياسة، ولا بمبتدئ في الكتابة. ورغم كل تلك التضحيات الجسام فسنجد أن هذا الرجل سيقيله الرئيس عزيز من الوزارة، وسيحرمه من بعد ذلك من الترشح باسم الحزب الحاكم في انتخابات 2013، وسيحرمه حتى من تسجيل اسمه في الخانة الرابعة من اللائحة الوطنية لمرشحي الحزب الحاكم. لقد قدم هذا الرجل خدمات جليلة للرئيس عزيز، وهي الخدمات التي لا يزال يدفع فاتورتها، ومع أن طموح الرجل لم يكن كبيرا، فهو لم يطلب رئاسة الحكومة، وإنما طلب فقط أن يوضع اسمه في الخانة الرابعة للائحة الوطنية لمرشحي الحزب الحاكم، ومع ذلك فقد حُرِم من ذلك، وذلك في الوقت الذي تم فيه ترشيح أسماء مغمورة وأخرى تعد من رموز الفساد من طرف هذا الحزب. فلماذا تم حرمان الدكتور"الشيخ المختار ولد حرمة" من الترشح باسم الحزب الحاكم، ومن وضع اسمه في الخانة الرابعة من اللائحة الوطنية لمرشحي هذا الحزب؟ لا أجد جوابا على هذا السؤال أكثر وجاهة من الجواب الذي يقول بأن مشكلة الدكتور كانت تكمن في مبالغته في دعم الرئيس عزيز، ولذلك فقد كانت المضايقات كبيرة لكي تتناسب مع حجم ذلك الدعم.
هناك أمثلة عديدة أخرى يمكن تقديمها في هذا المجال، ولكني سأكتفي بأن أذكر وبشكل سريع، حالة "أبو مدين ولد باته" الذي كان قد بالغ في مدح النظام، وحتى في يوم تجريده من وظيفته. لقد فتح الرجل بيته لحراس المنازل في "تفرق زينه"، لا لشيء إلا ليؤكد لهم وللعالم أجمع بأن موريتانيا قد دخلت فعلا في عهد الاهتمام بالفقراء. هناك أيضا حالة "محمد الأمين ولد الداده" الذي جاء من بعيد لدعم انقلاب السادس من أغسطس، ومع ذلك فسيلقى به في السجن سنين عددا، والغريب أن الرجل لم يتوقف عن التعبير عن دعمه للرئيس عزيز خلال مقامه في السجن. ولو كان الأمر يتعلق هنا بمحاربة الفساد لكان بالإمكان تفهم تجريد وسجن هؤلاء الداعمين، ولكن، وللأسف الشديد، فإن الأمر لا يتعلق بمحاربة الفساد، ولو أنه تعلق بمحاربة الفساد لما نجا مفسدون كثر يتقلبون الآن في أسمى الوظائف.
إننا فقط أمام ظواهر غريبة في سلوك الرئيس "ولد عبد العزيز"، ومن هذه الظواهر الغريبة أن الرئيس عزيز الذي كان قد انتقد الشعراء وأصحاب الشهادات في العلوم الإنسانية بقسوة، لم يرحم ـ في المقابل ـ أصحاب التخصصات العلمية، والذين ساءت أحوالهم كثيرا في عهد الرئيس عزيز، واسألوا إن شئتم جماعة "أنا علمي"، وجماعة الدكاترة الأطباء وغيرهم من أصحاب الشهادات العلمية.
ولقد تضرر الأغنياء ورجال الأعمال في عهد الرئيس عزيز، فغادر بعضهم، وهَرَّبَ البعض الآخر أمواله إلى الخارج خوفا عليها، ولكن تضرر الأغنياء في هذا العهد لا يعني بأي حال من الأحوال بأن الفقراء قد تحسنت أحوالهم، واسألوا إن شئتم أول فقير تصادفونه على قارعة الطريق، بل واسألوا أنفسكم فأنتم من هذا الشعب، وغالبية هذا الشعب هي من الفقراء.
ولقد تضرر "العجزة" وكبار السن في عهد الرئيس عزيز، ولكن ذلك لا يعني بأي أحوال من الأحوال بأن الشباب قد تحسنت أحوالهم، وكيف تتحسن أحوالهم ونسبة البطالة ظلت في هذه البلاد في تصاعد مستمر، إلى أن وصلت إلى أعلى نسبة في العالم.
ولقد تضرر المزارعون في الضفة في هذا العهد كثيرا، ولكن ذلك لا يعني بأن الصيادين في الشواطئ قد تحسنت أحوالهم. ولقد تضرر المنمون في الأرياف، ولكن ذلك لا يعني بأن التجار في المدن قد تحسنت أحوالهم. ولقد تضرر سكان المدن الكبرى في عهد الرئيس عزيز، ولكن ذلك لا يعني بأن سكان الأرياف والقرى قد تحسنت أحوالهم، واسألوا إن شئتم أهلنا في "ترمسه"، وفي "انبيكت لحواش" وفي "بورات" .
ولقد تضرر المعارضون في عهد الرئيس عزيز، ولكن ذلك لا يعني بأن الموالين قد تحسنت أحوالهم، بل على العكس من ذلك، فقد ساءت أحوالهم كثيرا.
لقد ساء حال المعارضين في العهد الحالي، وقد تم حرمانهم من أبسط الحقوق في مجال التوظيف والصفقات، ولكن وعلى الرغم من ذلك، فإن الرئيس عزيز كان أكثر رحمة ورأفة بمعارضيه من مواليه.
إن الرئيس عزيز يعمل جاهدا لإجبار الجميع لأن ينخرط في المعارضة الجادة، ولكن من الناس من لا يتعظ أبدا، ومنهم من لا يريد أن يبتعد عن موالاة تجلب له من المشاكل ومن الإهانة أضعاف ما تجلبه المعارضة لمن انخرط في صفوفها.
إن المعارضين في زمن الرئيس "محمد ولد عبد العزيز" لفي نعمة لو ذاق طعمها الموالون لانخرطوا جميعا في المعارضة، والنعمة المقصودة هنا تتمثل في أن المعارض تتاح له ـ على الأقل ـ الفرصة لأن ينتقد و يحتج ضد من تسبب له في الجوع والتهميش، وفي ذلك لنعمة، ولكن هذه النعمة ليست متاحة للموالاة والتي يعاني المنخرطون فيها أيضا، وباستثناء قلة قليلة جدا، من التجويع والتهميش والإقصاء. البعض يقول بأن الرئيس عزيز بلا موالاة، وفي هذه فقد صدق، ولكن ذلك ليس إلا مجرد شطر من البيت، فالشطر الثاني من البيت يقول بأن الموالاة بلا رئيس.
لقد آن لعقلاء الموالاة أن يتأملوا في حالهم، وبما لحق بهم من ضرر بسبب موالاتهم العمياء للرئيس عزيز، وإذا كان بعض المعارضين قد طرح فكرة فتح لائحة سوداء لتسجيل أسماء كل أولئك الذين بلغ بهم التملق لأن يطالبوا بتعديل المواد الجامدة في الدستور، فإني أنا في المقابل أطرح فكرة فتح لائحة موازية خاصة بعقلاء الموالاة وبشرفائها الذين قد يمتلكون من الجرأة ما يمكنهم من أن يصرحوا برفضهم لزيادة المأموريات، مثلما فعلت النائب "لاله بنت حسنة".
إن الصمت اتجاه الدعوة لزيادة المأموريات لم يعد مقبولا، لا من الموالين العقلاء، ولا من أولئك الصامتين المتفرجين الذين لا ينتسبون للموالاة ولا للمعارضة ..إنه على الجميع أن يتحدث، وعلى عقلاء الموالاة أن يعلموا بأن من الموالاة ما قتل.