لحسن: ننتقل إلى نقطة ربما كانت مهمة، وهي التعليق على موضوع الحلقة الذي يتمثل في فترة الرئيس الأسبق محمد خونا ولد هيداله والسياسات التي انتهجها حين وصوله إلى الحكم. من أبرز تلك السياسات سن قانون تجريم الاستعباد. فماذا تحقق من هذا القانون في ظل حكم الرئيس هيداله، أم إنه ظل حبرا على ورق؟
ذ. إشدو: أعتقد أن هناك سياسات كبرى وأخرى صغرى؛ فالسياسات الكبرى لأي نظام تتعلق بتوجهاته العامة؛ وخاصة في مثل تلك الظروف، وموقفه من الحرب ومن السلم، وموقفه من المواطنين، ومن الديمقراطية ومن الحريات.. إلخ. هذه هي السياسات الكبرى للنظام. وأنا شخصيا–وسأعود إلى هذا الموضوع- أعتقد أني سيد وجهة نظري، ولا سلطة أو رقابة عليها لأحد؛ سواء في عهد الرئيس المختار ولد داداه أو عهد الرئيس المصطفى ولد محمد السالك، أو عهد الرئيس هيداله، أو عهد الرئيس معاوية ولد الطايع، أو الذين جاؤوا بعد هؤلاء، ولي الحرية في الإفصاح عنها كما أراها، ولا أكتمها.
ميزات أساسية
هذا الفصل من باب العاشر من يوليو امتاز بثلاث سمات أساسية في المجال السياسي:
أولاها الانفراد بالسلطة. الرئيس محمد خونا ولد هيداله في مذكراته كان من مآخذه الأساسية على الرئيسين المصطفى ولد محمد السالك وأحمد ولد بسيف –رحمهما الله- انفرادهما بالسلطة، وسبق أن استعرضنا ذلك. ومن الغريب أنه هو عندما استلم السلطة وقع في نفس الخطأ فانفرد بها تماما! وتمثل هذا الانفراد في مسألتين أساسيتين ذكرهما في مذكراته. ولن أفتري عليه ولا على غيره شيئا.
إحداهما إقصاء كافة الأجنحة؛ بما في ذلك الرئيس الجديد الذي لا يريد علوا في الأرض ولا فسادا؛ ألا وهو الرئيس محمد محمود ولد أحمد لولي!
يعترف الرئيس محمد خونا ولد هيدالة في كتابه بعدم وجود مشكلة لدى الرئيس ولد أحمد لولي، لكنه – مع ذلك أقصاه في ستة أشهر! ويقول إنه ارتأى أن لا جدوى من ثنائية السلطة (أو ما هذا معناه) فتخلص منه في الرابع من يناير 1980 "وبعد مضي ستة أشهر من تقاسم السلطة مع الرئيس محمد محمود ولد لولي اقتنعت بأن ثنائية السلطة لم تعد تناسب حينها (لماذا؟!) فكلمت اللجنة في توحيدها واقترحت عليهم أن يلغوا منصب الوزير الأول ويبقوا لولي رئيسا يتمتع بكل الصلاحيات، لكن لولي رفض شخصيا هذا المقترح؛ كما رفضه أعضاء اللجنة الآخرون واقترحوا أن أكون أنا الرئيس، وهكذا صرت المسؤول الأول الوحيد عن شؤون البلد منذ الرابع من يناير 1980".
لحسن: وأنتم كباحث في هذا الميدان هل تطعنون في صحة ما قاله الرئيس عن اقتراحه بقاء الرئيس محمد محمود ولد أحمد لولي في السلطة بكامل الصلاحيات؟
ذ. إشدو: لا، لا أطعن في الصحة، وإنما حديثي الآن عن الانفراد بالسلطة.
لحسن: أنا أسألكم هل تصدقون هذا؟
ذ. إشدو: لا أدري، لكني لو كنت مكان لولي واقترح علي هذا – ونحن نعرف طبيعة الرئيس محمد محمود ولد أحمد لولي- لما قلت سوى ما قاله. لم يعد بإمكاننا أن نتفاهم فتفضلوا أنتم. خاصة وأن الجماعة التي بقيت في السلطة بعد 31 من مايو 1979 كانت ذات اتجاه واحد.
ما هو العنصر الثاني من سمات الانفراد بالسلطة؟ هو أن أول قرار يتخذه رئيس الوزراء كان الامتناع عن مقابلة الشخصيات الاجتماعية مدة ستة أشهر. ما معنى هذا؟ معناه أنه قطع صِلاته بالمجتمع! الشخصيات الاجتماعية هي زعماء القبائل والوجهاء والأعيان.. أهل موريتانيا الداخل جميعا. قد يكون لهذا القرار مردود إيجابي، لكن سلبياته أكثر.
في ص 91 يقول: "كما كان علي أن أقوم بخطوة تلفت الانتباه إلى أن منعرجا جديدا سيُسلَك، فاتخذت قرارا بعدم لقاء رئيس الوزراء للشخصيات الاجتماعية مدة ستة أشهر. وكان لهذا القرار غرض آخر هو التفرغ لوضع التصور الذي سيسير عليه الحكم".
أنا لا أنكر، لكني أقول إن الموريتانيين الذين امتنع رئيس الوزراء عن لقائهم لو اجتمع بالكثير منهم وسألهم لما وافق على السياسة الاستسلامية المنتهجة بعد ذلك. وبالتالي أعتقد أن أبرز ملامح هذا النظام كان الانفراد بالسلطة.
السمة الثانية كانت - حسب رأيي- رفض الديمقراطية، ورفض العودة إلى النظام المدني وإقصاء المدنيين من السلطة ما عدا الفصائل التابعة لاتجاهه: البوليزاريو والجزائر.. إلخ! أو تلك غير التابعة لشيء كلجان التطوع والهياكل. فلجان التطوع كانت تضم أصحاب الاتجاه السياسي المذكور، أما الهياكل فلا تتبع أي شيء.
كما أن من جزئيات هذه السمة انتهاك حقوق الإنسان.
لحسن: كيف تجلى ذلك؟
ذ. إشدو: تجلى في السجن، وفي التعذيب، وحتى في الإعدامات التي وقعت.
لحسن: هل يمكن القول إن أسوأ فترة مرت على موريتانيا - في تقييم حقوق الإنسان- هي فترة الرئيس الأسبق محمد خونا ولد هيداله؟
ذ. إشدو: لا أستطيع أن أقول ذلك، وخاصة أن لفترة حكم الرجل إيجابيات سأصل إليها. فيما يتعلق بحقوق الإنسان فإنها ظلت مغيبة طيلة مختلف الفترات منذ العاشر من يوليو 1978 إلى الثالث من أغسطس 2005. تمثل ذلك في التعالي على المدنيين كما سبق ذكره، حيث يقول الرئيس هيداله: "وفيما يتعلق بالجناح المدني الذي كان يقف معنا في مشروع العاشر من يوليو أود أن أقول إنني وأحمدو ولد عبد الله كان لدينا موقف مبدئي بعدم قبول عقد أي لقاء مع المدنيين؛ ذلك أننا لم نكن نثق بقدرة المدنيين على كتم الأسرار، أو بالأصح: التحلي بالسلوك الأمني المطلوب من حصافة وحيطة وحذر. ولذلك فقد وكلنا كل ما يتعلق بهؤلاء المدنيين، وكذلك التحرك السياسي إلى المصطفى وجدو".
إذن انعدام الثقة..
لحسن: كانت هناك أزمة ثقة بينه وبين المدنيين.
ذ. إشدو: نعم. وأود القول إن الرئيس محمد خونا ولد هيداله – أطال الله بقاءه- خلال الكتاب كله يوضح أنه إذا كان لديه مساعد أو نائب فهو أحمدو ولد عبد الله رحمه الله.
وأد الديمقراطية
فكرة عدم نضج الشعب للديمقراطية وضرورة التخلي عن كل الخطط الرامية إلى الرجوع للحياة المدنية – وخاصة المجلس الاستشاري- كانت من عند الرئيس كما ورد في مذكراته بكل وضوح.
لحسن: وهذه ميزة أيضا لنظام الرئيس الأسبق محمد خونا ولد هيداله، في انفراده بالسلطة وفي عدم ديمقراطية النظام.
ذ. إشدو: نحن الآن نتكلم عن ميزة رفض الديمقراطية والعودة إلى النظام المدني. يقول الرئيس هيداله متحدثا عن المجلس الاستشاري: "وقلنا له (يعني الرئيس المصطفى رحمه الله) إن الخلافات المتصاعدة في الشارع حول المجلس ستؤدي – إن استمرت- إلى وأد مشروع العاشر من يوليو". وهو يتحدث دائما عن "مشروع العاشر من يوليو" وبعد 31 مايو انتزع شرعية العاشر من يوليو وتبنى مشروع العاشر من يوليو.
ويواصل: "وطلبنا منه (أي من المصطفى رحمه الله) أن يغتنم فرصة التوتر الحاصل ليقول إن الشعب لم يتهيأ بعد للديمقراطية، ولذلك سيستمر الحكم العسكري حتى يتغير الوضع، فرد علينا بتعهد بذلك، ولكنه لم يف بتعهده".
إذن فالرجلان كانا أبوي هذه الفكرة. (فكرة الانقلاب الدائم على الشعب).
وهنا أود العودة قليلا لأقول إن قراءة المذكرات جعلتني فعلا أغير من رأيي الذي قلت فيه إن انقلاب العاشر من يوليو كان انقلابا مدنيا. هو انقلاب مدني فعلا بمعنى أن المدنيين قاموا به بواسطة ضباط في الجيش، لكن في إحدى فتراته تمثلت في الفصل الثالث منه؛ ويمتد من 31 مايو 1979 إلى 12/12 كان انقلابا عسكريا لماذا؟ لأن الانقلاب العسكري – كما سبق أن قلت- هو ذلك الانقلاب الذي يطوي النظام المدني بحسناته وسيئاته، ويرسي نظاما عسكريا أحاديا يسيطر فيه الجيش ولا وجود فيه للمدنيين، ولكنه كان انقلابا عسكريا تقوده بوليزاريو وحلفاؤها.
أضف إلى ذلك أن جميع ما ورد في بيان 6 إبريل أن الخطأ الذي ارتكبه الجيش هو تقاسم السلطة مع المدنيين أو زاد على التقاسم. هذه الأفكار الواردة في بيان 6 إبريل هذا منبعها. ومن ثم فحكومة إبريل أقصت المدنيين الذين كانوا في الحكم قبلها.
لحسن: هناك نقطة مهمة أيضا، وتتعلق بالرئيس الأسبق محمد خونا ولد هيداله. الكثير من المراقبين والباحثين في المجال السياسي يصفون فترة الرجل بأنها فترة النظام البدوي، ويقدمون لذلك الكثير من الأمثلة منها أن نوقا كانت ترعى في حدائق القصر.. إلى غير ذلك. قبل أن نتجاوز هذه النقطة هل تعتقدون أن البداوة انعكست على سياسات النظام وتصرفاته وتعامله مع الكثير من القضايا.
ذ. إشدو: أمهلني حتى أكمل لك السمات من وجهة نظري.
انتهاك حقوق الإنسان
ثالثة السمات التي ذكرت لك هي انتهاك حقوق الإنسان؛ فهذا النظام هو الذي دشن الاعتقالات. ففي عهد من سبقه من حكام العاشر من يوليو لم تحدث اعتقالات إلا لأعضاء الحكومة الذين أفرج عنهم بعد 6 إبريل. وفي فترة 6 إبريل لم تكن اعتقالات رغم الاضطرابات التي وقعت آن ذاك؛ والتي سقط فيها قتيل كما أسلفت. ولا ينفي هذا وجود مطلوبين لم يعثر عليهم في تلك الأيام.
هذا العهد إذن دشن الاعتقال، وجرى التدشين بي أنا والتجاني ولد كريم. وكان ذلك بعد تنحية كل من أحمد سالم والرئيس لولي.
لحسن: كيف ذلك؟
ذ. إشدو: أخذنا من منزلينا في 23 فبراير 1980 إلى إدارة الأمن التي مكثنا بها 15 يوما لم يطرح علينا فيها سؤال عن أي شيء مهما كان، ولم توجه إلينا أية تهمة!
بعد الخمسة عشر يوما وضعنا في سيارات على نحو سيئ جدا ورُحِّلنا إلى تشيت. وصعوبة العيش في تشيت وقسوة مناخها مشهوران، إلى حد أن حاكم المقاطعة نفسه بعث برقية بعد 12/12 يسأل عن العفو الصادر حينها هل هو شامل أم لا؟ فإن كان شاملا فينبغي أن يدخل هو فيه!
وحين وصلنا إلى تشيت وجدنا تعليمات وزارة الداخلية تقتضي إبقاءنا في مكان مغلق طيلة الـ24 ساعة، مع أننا كنا مصنفين تحت قانون الإقامة الجبرية الذي سنه الفرنسيون حوالي سنة 1960، وهذا القانون يتيح للمشمول به حرية التجول في المنطقة التي حددت إقامته بها، وحرية الزيارات، وفي مدة معينة (قد تكون 30 يوما) يجب على وزير الداخلية أن يقدم تقريرا إلى السلطة يبرهن فيه على أن الشخص الموضوع تحت الإقامة الجبرية يشكل خطرا على الأمن.
لم تُحْتَرَمْ هذه الإجراءات القانونية المنصوصة، بل وضعنا في سجن مشدد نُفِّذ تحت عنوان الإقامة الجبرية! وكنا نعيش في غرفة متداعية بلا مرافق ولا نوافذ وتقضي التعليمات بإغلاقها الدائم. وكنا إذا أردنا إحداث تغيير في نمط عيشنا النكد نضع فراش الجنوبي منا في موضع فراش الشمالي والعكس بالعكس. ويتكون الفراش من حصير بال ومرتبتين صغيرتين من الإسفنج.
أما مناخ تشيت فقد كان رهيبا جدا؛ فهو جحيم يتصارع فيه غولان أربعا وعشرين ساعة عصفا وسموما، وحين يفرغ الشرقي ما في جوفه يسكن العصف قليلا يستريح فيه الشرقي ويسترد الغربي أنفاسه بعد أن يكون قد ابتلع جميع ما نفخه ورماه به خصمه، ثم يبدأ كيل الصاع بالصاع.. وهكذا دواليك.
وقد صورت هذا الجحيم في قصيدة لي بعنوان "في ذمة الحق" (أو ليلة دبرانية) فقلت:
وليلة من ليالي الصيف كالحـة*نادمتها وهي بالصهباء تغريني
رمضاؤها تلتظي تحتي تهدهدني*ورَوْحها - كلهيب الحب- يكويني
ما حيلتي في جحيم لا قرار به؟ *فالقبض يخنقني والسدل يشويني!
أسامر النجم؟ قد غالته وطــأتـها*وألبست بدرها ثوبا من الطين
وأصبح الكون قفرا لا حراك بـه*كأنه صخرة في كهف مسجون
.. ولت؛ كمثل لُيَيْلات لنا سلفـت*في ذمة الحق؛ أبليها.. وتبليني.
ومن بعدنا نحن جاء دور البعثيين الذين كانوا حلفاء للنظام، ثم الناصريين الذين كانوا حلفاءه أيضا، وجاء السادس عشر من مارس فجاء دور أهل موريتانيا كلهم! فحين اعتقلت في مركز المطافئ بعد السادس عشر من مارس وجدت هناك جميع مكونات الشعب الموريتاني، أمراء ووزراء ومثقفين وإداريين.. الكل معتقل. وفتحت المنافي أبوابها فرحلت جماعة إلى تشيت وجماعة إلى ولاته وجماعة إلى باسكنو وأخرى إلى أوجفت، وأخرى إلى شنقيط، وأخرى إلى وادان، وأخرى إلى تامشكط، وأخرى إلى باركيول.. إلخ.
وقد جمع بعضنا - نحن المنفيين إلى الشرق- مقيل في جوك، فكان هناك أحمد ولد محمد صالح وزير الدولة للسيادة الداخلية، وأحمد ولد داداه وزير المالية، ورجال أعمال كبنبه ولد سيدي بادي ومحمد ولد اخيار، وهناك العربي ولد أحمد ولد كركوب رحمه الله، أحد إداريي هذه البلاد وأبنائها البررة وشجعانها الفضلاء.. وجاء الدور على الرئيس المصطفى ولد محمد السالك، ورئيس الوزراء سيد أحمد ولد ابنيجاره.. إلخ.
لقد فتحت أبواب جهنم إذن وظلت مفتوحة إلى يوم 12/12.