محمد عبد الله ولد لحبيب يكتب: هندسة خطاب.. فلسلفة حكم

تشي الخطابات عن فلسفة أصحابها تصريحا أو تضمينا، ويمكن بقليل من التمعن، فهم فلسلفة أي قائد في الحكم من خلال ترتيب المواضيع في خطاباته، وأحاديثه. يتحدث كثير من القادة والسياسيين عن القيم حديثا نظريا، ويعتلي أغلب القادة في العالم منصة الأستاذ حين حديثه إلى الشعوب.

 

لكن بعض القادة يلجمه التواضع عن أن يلقي على الناس دروس الأخلاق والقيم، ومع ذلك تغلبه أحاديثه، وسلوكياته، وعلاقاته، وطريقة تعبيره، فتعطي المتتبع صورة واضحة عن طريقة تفكيره، ويكمل اختياره للكلمات، ونبرة الحديث ما تبقى.

حينئذ يقدم المسكوت عنه أكثر مما يقدم المقول.  وحينئذ يصبح الصمت أفصح من كل كلام.

لقد أبان بناء خطاب فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في الذكرى الثانية والستين لعيد الاستقلال الوطني- مع حديثه عن المنجز الضخم بلغة الأرقام- عن فلسفته في الحكم، وحدد مفهومه للسلطة، وكشف عن رؤيته للدولة، بطريقة أبسط وأوضح وأعمق مما يمكن أن يقدمه أي شرح نظري في أي خطبة أو خطاب، ولو أخذ مساحة أوسع، وحجما أكبر.

    ساق الخطاب كل الإنجازات باعتبارها تدعيما للوحدة الوطنية، التي هي أساس كل استقلال، ودعيمة كل نهضة؛ فلا معنى لموريتانيا التي يتحدث عنها الخطاب إذا فقدت مكونا واحدا من مكونات شخصيتها الثرية، أو انفرط عقد مكوناتها الاجتماعية، أو ظل التفاوت والغبن ينخران أسس بنيانها.

ولا يمكن بناء وحدة وطنية دون هوية جامعة، متعالية على التقسيمات الإثنية والعرقية، والدين الإسلامي هو العقيدة الجامعة لكل مكونات هذا الشعب، وهو الوحيد الذي يتأذى كل فرد من المجتمع الموريتاني، من محاولة سلبه الانتماء إليه، أو التقليل من التزامه به.

ولا يمكن استدامة الوحدة الوطنية من دون غرس بذورها في الأجيال الناشئة، وغرسها قيما في مراحل التعليم الأولى، "تنقش في الحجر" مع تعلم الأبجدية، وتلقي مبادئ المعرفة؛ فكانت المدرسة الجمهورية إجابة لسؤال: من أين نبدأ؟

وحتى لا يتوقف قطار التمدرس عند محطة دون المنتهى، فقد شرع في مضاعفة الطاقة الاستيعابية لجامعة نواكشوط، لتفيض مقاعد الدراسة في التعليم العالي عن عدد الحاصلين على الباكلوريا. هذا مع توسع عائلة المعاهد المتخصصة، واتساع قطب مدارس المهندسين.

ولن تستمر وحدة وطنية من دون عمل دائب على إذابة الفوارق المادية، ومحاربة كل صنوف الغبن، وهو ما جاءت من أجله محاور التوزيع العادل للثروة، وقد غطت حوالي ثلث الخطاب؛ وتنوعت أساليبها، وعناوينها، من الخدمات الصحية؛ تأمينا شاملا، ومجانية لبعض الخدمات، والأدوية، واعتناء ببعض صنوف المرضى، وإعانة اجتماعية؛ توزيعا للنقد على عشرات آلاف الأسر، وتوفيرا للأعلاف في فصل الصيف، وإغاثة للمتضررين، وكفالة للتلاميذ والطلاب.

ولا يمكن أن تمحى الفوارق بمجرد التكفل والمساعدات، فجاء التكوين المهني ليقضي على نوع آخر من الفوارق، ويحقق حدا مقبولا من تكافئ الفرص، يلحق من حالت ظروفهم دون الدراسة والتعلم بمن واتتهم الظروف في طفولتهم وبدايات شبابهم.

ولا وجود لوحدة وطنية بدون قضاء مهني، لديه الوسائل المادية والمعنوية، التي تمكنه من أن يمارس دور الرقيب على التجاوزات، ويسوي بين الخصوم؛ قويهم وضعيفهم.

ولا يمكن استكمال الوحدة الوطنية دون تحصيل اكتفاء ذاتي في الغذاء، وطريق ذلك الوحيد هو زراعة الأرض، واستخراج خيرات البر والبحر. ولذا أعطت الدولة أكثر من مجرد الاهتمام للزراعة؛ فاستصلحت الأراضي، ومولت المزارع، وأطلقت خدمات الري والكهربة، فحصدت ثمار ذلك شبه اكتفاء ذاتي في الأرز، وتطويرا للمنتوجات الغذائية الأخرى.. وشمل التطوير الثروة الحيوانية، والسمكية، والتعدين..

سياج الوحدة الوطنية كان مؤسسة أمنية وعسكرية جمهورية، توفرت لديها الإمكانات البشرية والمادية للقيام بدورها في حماية الوطن، وفرغت لوظيفتها باختيار الأكفأ لقيادتها، وتوفير وسائل القوة المادية والمعنوية.

جاءت الالتفاتة الاجتماعية إلى ذوي الدخل المحدود من موظفي وعقدويي القطاع العمومي، بزيادة الرواتب، ورفع الحد الأدنى للأجور، وزيادة التعويض الاجتماعي لتكون بصمة ختام توضع على الغلاف الاجتماعي الذي نسج الخطاب. وخصت المدرسة بإشارة دالة على أن المدرسة الجمهورية مشروع استقلال ووحدة وطنية، وأمن اجتماعي، وبذرة نهضة شاملة.

لقد ظهرت الدولة في خطاب فخامة الرئيس، بنيانا دعائمه الوحدة الوطنية والهوية الإسلامية، والتعليم الجيد، وأساسه، العدل والعدالة في توزيع الثروة. سقفه الحريات المصونة، وسيادة القانون، والأمن الغذائي، وجدرانه التنمية الاقتصادية، وسياجه احترافية الجيش والأمن والدبلوماسية الرصينة، وحراسة حرمة المال العام.

وإن بيتا هذا بنيانه سيأمن سكانه غوائل الأزمات، وتحفهم مباهج الحياة الكريمة، وينمو أملهم في مستقبل الإخاء والرخاء، في كنف دولة تحنو على الضعيف حتى يقوى، والمأزوم حتى تفرج كربته، والجاهل حتى يتعلم، والمريض حتى يشفى، والفقير حتى يغنى.