لماذا يحب العروبيون الاستبداد؟!

لا يزال العجب يأخذ بعقلي والحيرة تقرع فكري، من إخوة أعزاء وأصدقاء أوفياء وأساتذة أجلاء من التيارات القومية العروبية؛ يحبون الانقلابات العسكرية ويوالون الاستبداد، ولا ديمقراطية أحب إليهم من حكم الفرد المطلق... في بلادنا العربية!

ولكأن القوم ذابوا في عشق الديكتاتورية إبان ازدهارها و"زهوها" ومردوا عليه، حتى بعد أفول نجم الانقلابات العسكرية وبوارها!

ولا يبدو أن الحصيلة السلبية لأنظمة الشعارات العروبية، قد أقنعت معظم هؤلاء القوميين بأنهم كانوا يرتادون السراب، وبأن الطغاة الذين ساندوهم وقدسوهم حتى جعلوا أشخاصهم أهم من أقطارهم ومن أمتهم ومن تحقيق المبادئ السامية التي كانوا يرفعونها شعاراتٍ جوفاء يعملون في الواقع بنقائضها، هم السبب الرئيسي لتشظي الأمة وهزائمها المُذلة وتخلفها المزمن!

 

وبعد تساقط معظم الحكام القوميين وانهيار ما كان يُتوهم أنهم حققوه من إنجازات، ما يزال كثير من أشياعهم ينفرون من الديمقراطية الحقيقية ويحنون إلى تلك الأنظمة التي كانت تزرع على المستوى القطري الكبت والخوف والطائفية، وتعمق التشرذم والتخاذل على المستوى القومي!

 

ويعتقد الناس أن ميل معظم العروبيين اليوم إلى أنظمة استبدادية، حتى ولو كانت معادية لأفكارهم، إنما هو نتيجة لشعورهم بالدونية السياسية، وبأنهم لن يحصلوا في أي منافسات ديمقراطية حرة على طائل.

 

وقد أدى هذا الشعور بكثير منهم، أحزابا أو فرادى، إلى التماس القبول في صفوف زُمَر أنظمة الاستبداد المعاصرة التي أجبرتها "العولمة" على التظاهر بطقوس الديمقراطية، هنا وهناك...

 

إلا أن قبولهم في هذه الزمرة لم يكن حسنا، لأن هذه الأنظمة دأبت على احتناك فئات الانتهازيين والمستغربين والعلمانيين، الذين تشفع لهم هُوياتهم الكولونيالية وتحميهم ولاءاتهم الأجنبية وتغلغلهم في مفاصل الدولة الحساسة.

 

وفي النهاية يجد أصحابي أنفسهم كالأيتام في مائدة اللئام! "متطوعين" لأعدائهم الطبيعيين بدعم غير مرغوب ولا مرهوب! وربما تطلب منهم ذلك القيام بأعمال سياسية "قذرة"؛ كالتعرض لبعض الأحزاب أو التيارات السياسية المعارضة!

 

لقد جرب اليساريون أيضا هذه المظاهرة، ولم تفدهم كثيرا في تنمية الأيديولوجيا التي كانوا يبشرون بها. كما أن القوميين العروبيين لم يسلموا من قمع وبطش الأنظمة الديكتاتورية وخاصة في بلدنا هذا؛ بما فيها تلك التي ظاهروا انقلاباتها أو صفقوا لها أولا!.

**

ولكن ما سبب "التقزم" السياسي للأحزاب والتيارات القومية، وما الذي جعل بعضهم يتوهم أن هذا قدره: من تقديس ديكتاتور مخادع بالشعارات، إلى تملق انقلابي أو حاكم مستبد مخادع بالانتخابات؟!

 

ومن الذي يزعم أن العروبة لا صوت لها، أو بأن مبادئ القومية العربية، التي تدعو إلى الوحدة وتحرير الأرض وسيادة اللغة والثقافة العربية الإسلامية والحرية والعدالة الاجتماعية... يمكن أن يعلو عليها أي صوت أو يسبقها أي سابق بالحق؟!

 

أجزم أنه لا توجد مبادئ ومواقف أنبل ولا أكثر وجاهة وأوفر شعبية من تلك. لكن العمل على تحقيقها عمليا مختلف تماما عن استغلالها كشعارات لشحن العواطف وعمي البصائر.

 

فلماذا لم نقارن أبدا ـ كعروبيين ـ بين تقديرنا واهتمامنا تجاه الحكام "القوميين" المتشاكسين الذين حصنوا القصور ولغموا الحدود وبددوا الثروات والطاقات ليتجاوزوا بشريتهم المتواضعة أصلا، وبين قوميين آخرين فكروا ونظَّروا وبينوا القواعد الصحيحة، ولكنهم لم يحكموا؛ لأنهم لم يركبوا دبابة ولم يطلقوا رصاصة على خصومهم ولم يغدروا بأصدقائهم. من هؤلاء ـ على سبيل المثال الحديث ـ ساطع الحصري وميشل عفلق وقسطنطين زريق وزكي نجيب الأرسوزي وعبد الرحمن الكواكبي (مؤلف كتاب "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد")... وغيرهم ممن حملوا الفكر القومي العروبي الخالص، ولكن مع ذلك كان النسيان والتجاهل والنفي والمضايقة... نصيبهم من فردوس الدولة القومية التي تتشدق بفكرهم، ولكنها تُفضل العمل بـ"فكر المخابرات"!!

 

ويبدو لي أن المشكلة كانت ولا تزال هي استبدال تلك المبادئ السامية والأهداف الراقية بذوات الحكام الشخصية، الذين اتخذوا من شعبية تلك المبادئ والأفكار وشدة الحاجة إليها حصونا لسلطتهم الفردية الفاشلة، وما رعوها حق رعايتها.

 

ومن الأدلة الصارخة على ذلك أن بعضنا يسمي الانقلابات العسكرية التي حملت بعض هؤلاء الحكام إلى السلطة (في مصر والعراق وليبيا وسوريا واليمن) "ثورات قومية مجيدة"، في حين يسمي الثورات الشعبية من أجل الحرية ـ التي تفجرت مؤخرا في هذه الدول وغيرها بشكل تلقائي دون أن يحركها أو يقودها شخص ولا حزب ولا تيارـ "الجحيم العربي" (بدل الربيع العربي)!! بسبب المآلات المأساوية التي جُرت إليها جرا، والتي لا علاقة لها بمنطلقاتها أصلا. فكيف تكون المبادئ مواقف، والأسباب نتائج؟!

 

لقد انفجر غضب شعوب هذه الدول بعدما نفد الصبر وبلغ الضغط منتهاه، فثارت للتخلص من الطغاة الذين يجثمون على بلدانها وعقولها وأقواتها إلى الأبد... دون أن يكون هناك تقدير ولا تدبير للبدائل. تلك البدائل التي كان جهد الحكام منصبا على الحيلولة دون وجودها، من أجل هذا "القدر" الرهيب الذي شاهدناه وهو: "إما أنا أو الانهيار والدمار"!!

 

وهكذا هبت التيارات السياسية، والمحرومون، والمنفيون، والانتهازيون، والإرهابيون... لاغتنام الفرصة، ونشطت الثورة المضادة، وتدخلت القوى الخارجية من كل حدب وصوب... لتكون هذه الأوطان وشعوبها المطحونة مسرحا للفوضى والدمار والإرهاب... بعدما ظلت مرتعا للاستبداد والفساد!

 

فمن المسئول الحقيقي عن كل ذلك؟ وهل هذه الفظائع المروعة والدمار الماحق والفوضى والإرهاب... تغير حقيقة أولئك الحكام وتجعلهم أكثر جمالا وصلاحا مما كانوا عليه فعلا؟ وهل تبدل حقائق أنظمتهم التي هي المسؤولة ابتداء وانتهاء عن كل هذه المآسي؟؟!!

 

والأهم من كل ذلك هل على القوميين العروبيين أن يتولوا وزر البكاء على أولئك الطغاة، كما تولوا وزر مآزرتهم في أيامهم المُدْبرة؟!

 

لقد تولت الشعوب العربية بكل براءة إسقاطهم، وها هي القوى الاستعمارية، الغربية والشرقية تنجح، أيما نجاح، في تحويل تلك الانتفاضات من أجل الحرية والديمقراطية، إلى مكاسب لها لم تكن تحلم بها: تدمير دول عربية وتمزيق وحدتها وإثارة الفوضى والطائفية، وظهور أشد أوجه الإرهاب بشاعة وجهالة لترويجه كنمط للثقافة العربية الإسلامية!

 

فهل علينا كقوميين أن نشاطر هذا الموقف ونمهد من خلاله لعهد جديد قادم من الاستعمار والاحتلال، ما يزال مجهول القوالب والألوان؟!

 

إنه موقف يعيد إلى الذاكرة الجريحة تحالف القوميين العرب مع القوى الغربية ضد "الاستعمار العثماني" من أجل الاستقلال؛ فكان جزاؤهم الاحتلال والاستعمار من تلك القوى (سايكس بيكو) بعد القضاء على "الرجل المريض"! ثم كانت الزيادة التي هي "أكبر من ظهر الصوﮔ" وهي زرع الكيان اليهودي الصهيوني في فلسطين ورعاية جرائمه إلى اليوم، مكافأة لـ"الثورة العربية" على دعمها للإنجليز!!

**

لقد آن الأوان للعروبيين أن يقلعوا عموديا من هذا المأزق السياسي/ التاريخي، ويتخذوا موقفا حازما يتبنى الديمقراطية بأركانها الأساسية، وهي التداول السلمي ـ ابتداء واصطحابا ـ على السلطة بالانتخاب الحر، وإدارة الدولة والشأن العام بالمؤسسات والقوانين، وليس بالإرادات الفردية والتوجيهات الشخصية.

 

وعليهم أن يعلموا ـ على كل حال ـ أن عصر "القائد الملهم" قد ولى واندحر.

 

وأخيرا أرى من المجدي في هذا الصدد أن يطرح القوميون سؤالا بسيطا هو: ما ذا لو أن دولا كبيرة وعريقة مثل مصر والعراق وسوريا... لم تشهد أصلا انقلابات عسكرية، أو "ثورات مجيدة" كما تصفها الأيديولوجيا القومية، وسارت بطريقة أخرى... أليس من الجائز أن تكون، أو بعضها، اليوم متقدمة على دول أخرى في إفريقيا، وجنوب آسيا وشرقها، وشرق أرووبا، وأمريكا اللاتينية... كانت أسوأ حالا وأصبحت اليوم تنعم بالرخاء والاستقرار؟

 

وبصيغة أخرى: هل كانت الأقطار العربية الثلاثة ـ مثلا ـ لا مناص لها من أن تكون أسوأ حالا مما هي عليه الآن لو أخطأها حكم تلك الأنظمة القومية الفاشلة؟!

 

الخلاصة: لن يتفق البناء من أجل سلطة الفرد مع البناء من أجل سلطة الدولة... أبدا!