امارة “الغاز والالغاز″ هل تعود الى اسمها..

كانت قطر بامتياز امارة (الغاز والالغاز) قبل مجيء ما سمي “بالربيع العربي” لانها كانت تجمع المتناقضات وتفتح الخطوط مع كل المتخاصمين، كانت تدعم حزب الله وحماس وسوريا وتقف الى جانب ايران رغم وجود قاعديتن عسكريتين كبيرتين امريكيتين على ارضها، ورغم كونها صاحبة قناة اتصال مع اسرائيل دائمه بمعزل عن المكتب التجاري الاسرائيلي في الدوحة.

 ليس هذا الا مثال واحد فقط على التناقض الذي كان يشغل بال الكثيرين في منتطقتنا، مما جعل قطر دولة تستطيع ان تلعب ادوارا فاعلة في معظم ملفات المنطقة، من اعمار منطقة جنوب لبنان بعد الحرب الاسرائيلية عليها صيف عام 2006 الذي اطلق في لبنان حملة (شكرا قطر)، وانجاز اتفاق الدوحة اللبناني الذي انتج حكومة ورئيس جمهورية لبنانيان بعد فراغ دام لشهور طويلة، الى الوساطة بين حركة طالبان والحكومة الافغانية، وبين الحكومة السودانية ومتمردي دافور، واخرى مع الحركة الشعبية في الجنوب، وصولا الى محاولات المصالحة الفلسطينية، والمصالحة السعودية السورية بعد قطيعة اثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري، ليس هذه الا امثلة ايضا فدور قطر في المنطقة لا يمكن ان نجمله بمقال قصير، لكنها كانت دائما محل تساؤل كانها لغز لا يمكن فك شفيرته، ليس هذا هو ما جعل تلك الامارة محط انظار العرب والعالم فقط، انما الالتفاته الثورية الى التنوير المفقود في المنطقة العربية، وعت قطر باكرا منتصف التسعينات من القرن الماضي اهمية النخبة العربية وراحت تفتح بوابات الدوحة لها بغض النظر عن انتمائها الايدولوجي او الحزبي اواختلاف تياراتها، كانت تلك النخبة مغيبة ومقموعة في مجتمعاتها او هاربة تبحث في بلاد الله عن منبر.

التقطت الامارة الصغيرة فكرة الاعلام الحر في وقت كانت فيه وسائل الاعلام العربية غارقة في تاليه الحاكم ورصد امجاده ومآثره، فخطت بكل جرأه باتجاه الثورة الاعلامية، وانجزت قناة “الجزيرة” التي كانت قبل خمس سنوات فقط منارة الرأي والرأي الاخر، محطة تلفزيونية يتسمر على شاشاتها ملايين العرب لاستمتاع بالاعلام الحر الذي حرموا منه لعقود خلت.

كان كل هذا ايها السادة قبل خمس سنوات قبل (الربيع العربي) المنشود، او المزعوم، او الموسوم ايا كان، لكن ماذا عن اليوم؟

اليوم نلتقط مؤشرات بسيطة ونعتقد انها تؤسس لتحول جذري في ما قامت به قطر من ادوار خلال السنوات الخمس العجاف.

اولها زيارة امير قطر الشيخ تميم بن حمد ال ثاني الى روسيا، ليست الزيارة حدثا كبيرا، لكن ما تحدث به الروس عن انفتاح قطري على الخيارات الروسية في سوريا والمنطقة يعني الكثير، لم يكرر الحاكم الشاب امام قيصر روسيا مواقف قطر الصقورية عن اسقاط النظام في سوريا بالقوة العسكرية، كما فعلت الدوحة خلال السنوات الخمس الماضية، لم تتدخل الدوحة في الفاعلية الروسية العسكرية والدبلوماسية ولم تعمل على افشالها، فلنتذكر حراك وزير الخارجية الاسبق حمد بن جاسم في الجامعة العربية والجمعية العامة لامم المتحدة ومجلس الامن والمنظمات الدولية الاخرى والتحركات الثنائية والثلاثية واحيانا الرباعية في مرحلة اسقاط الحكم في ليبيا، والسنوات الاولى من عمر الازمة السورية.

ثانيها، الاشارات المراجعة الكبرى والهادئة في مصير مؤسسة “الجزيرة”، ونختلف مع التشخيص القائل ان التقليصات وصرف مئات الموظفين واغلاق قنوات مثل “الجزيرة امريكا” هو عمل ناجم عن عجز مالي او بسبب انخفاض اسعار النفط عالميا. ونرى انها عملية جراحية هادئه لاعادة دور “الجزيرة” الى مرحلة ما قبل الربيع العربي. هي ربما عملية مراجعة حقيقية وفعلية لسياسية سنوات انتقلت فيها “الجزيرة” من التنوير الى التثوير، ومن الواقعية الى خلق الوقائع ونسجها، ومن الموضوعية والحياد الى اعلى مستوى من الايديولوجيا، ومن تعدد الاصوات والاراء الى الصوت الواحد والراي الواحد والفكرة الواحدة والاتجاه الواحد، واذا ما ظهرت اخرى مخالفة صدفة ينبري لها المقدم نفسه فيخرسها ويسفهها غاضبا مقطب الحاجبين فائر الدم فاقدا للاعصاب  منتقلا من الحكم الى الخصم، ربما نحن امام مراجعة عميقة لدور قطر ككل وموقعها في المتغيرات الاقليمية والدولية، واعادة التوازن الى خطابها واعادة صياغة العلاقة مع النخب والجمهور وليس مراجعة خطاب اعلامي فقط.

المؤشر الثالث، هو قرار امير قطر بتتغير وزاري شمل وزراة الخارجية بتعيين محمد بن عبد الرحمن ال ثاني في هذا المنصب خلفا لخالد بن محمد العطية الذي عين وزيرا للدفاع، فما هو مغزى هذا التغيير وهل يعني تغييرا في السياسية الخارجية القطرية انسجاما مع المواقف الاخيرة لامير البلاد في موسكو. نعتقد ان قطر تحضر نفسها لمسار جديد في حركتها السياسية يلحظ كل المتغيرات التي طرأت على الاقليم ابتداء بالمتحول الجذري في مسار الازمة السورية وليس انتهاء بالاتفاق النووي بين ايران والغرب الذي اعاد ايران بقوة على المسرح الدولي.

ليس خافيا على اي متابع لما يجري الان في المنطقة ان قطر اختارت التراجع والانكفاء عن صورة المشهد، حيث تقدمت المملكة السعودية باجندتها الخاصة واولويتها في مقارعة ايران في المنطقة عسكريا وسياسيا، وهو ليس من اهداف قطر التي احتفظت بعلاقة مميزة مع ايران رغم الاختلاف الحاد بينمها في سوريا، لا يخفى على احد ايضا ان رموز المعارضة السورية انتقلوا من حضن الدوحة الى حضن الرياض وصار القرار للاخيرة في تسيير شؤونهم وتنظيم صفوفهم واملاء شروطهم، ليس خافيا تراجع التاثير القطري في المشهد الليبي، وهي التي قادت فعليا الحرب على معمر القذافي، واخذت على كاهلها ترتيب الحكم من بعده. ليس خافيا ايضا خفوت الانتقاد القطري للرئيس السيسي اقله على المستوى السياسي والدبلوماسي .ليس خافيا انعدام التاثير القطري في الملف اللبناني وهي صاحبة اخر انجاز مصالحة تم بين كافة القوى اللبنانية في الدوحة.

فهل تعود امارة قطر امارة (للغاز والالغاز) كما كانت قبل السنوات العجاف، ام انه وفق مقولة الزمن لا يعود الى الوراء تسعى الامارة لشكل جديد من التموضع للعب ادوار جديدة وفق المسرح الجديد. الايام قد تكشف ان كنا التقطنا الاشارات بشكل صحيح او اننا نهذي.