«أم التونسي».. معركة جديدة بين الموريتانيين

نواكشوط المختار السالم - للخليج الإماراتية

أعلنت الحكومة الموريتانية رسمياً أنها ستدشن في يونيو/ حزيران المقبل مطار «أم التونسي» (مطار نواكشوط الدولي الجديد)، و هو مطار البلاد الرئيسي، وسيستقبل كل أنواع الطائرات في العالم مدنية وعسكرية، ومليوني مسافر سنوياً، وشيد ليكون أيقونة في إنجازات النظام الحالي، باعتباره من أكبر وأجمل المنشآت في موريتانيا..
غير أن مكانة هذا المطار معمارياً وخدمياً شيء، وتاريخ قصته شيء آخر.
ومن هنا، قررت «الخليج» أن «تقلع» إلى التاريخ، فتحطّ الرحال في بلدة «أم التونسي»، التي حمل المطار تسميتها.

لم ينشغل الموريتانيون طوال تاريخهم بالجدل حول «منشأة» من منشآتهم مثلما ينشغلون في هذه الفترة بتسمية «مطار أم التونسي»، ووصل الجدل إلى مجلس الوزراء، وأصدرت الحكومة الموريتانية مرسوماً بسحب صفة «النفع العام»، عن «هيئة المختار ولد داداه»، التي ترأسها أرملة الرئيس المؤسس الراحل المختار ولد داداه وهي فرنسية الأصل.

أرملة الرئيس الراحل، أصدرت بياناً طالبت فيه بتسمية «مطار أم التونسي»، باسم «مطار المختار ولد داداه»، مبررة ذلك بنقطتين: أنه في أغلب الدول الإفريقية يحمل مطار العاصمة اسم رئيس الاستقلال، وأن «اسم أم التونسي يذكرنا بمعركة مواجهة سنة 1932، في إطار بسط السلم الجاري وقتها في موريتانيا بين تجمع رحل الترارزة، الموالي لفرنسا، وموريتانيين آخرين معادين لهذه الأخيرة». وأضاف بيان الهيئة «هذه المعركة ترمز في نظرنا إلى الانقسام وموريتانيا بحاجة للوحدة أكثر من أي وقت». كان رد الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز سريعاً وحاسماً، فاستقبل في اليوم الموالي لبيان هيئة المختار ولد داداه، مكتب رابطة تخليد بطولات المقاومة، وفي اجتماع مجلس الوزراء (الجمعة- 27 نوفمبر 2015)، قررت الحكومة سحب صفة النفع العام عن هيئة المختار ولد داداه.
وقال الرئيس الموريتاني في مؤتمر صحفي: إن هيئة المختار ولد داداه، أساءت لتاريخ البلد إساءة كبيرة، ولتاريخ مقاومته الباسلة، وأن الحكومة «ترفض الاستمرار في توجيه موارد الشعب لهيئة تمتهن المساس بتاريخ البلد»، وردت أحزاب وشخصيات معارضة على قرار الحكومة وتصريحات الرئيس الموريتاني في هذا المجال، لتزداد سخونة الجدل بين الموريتانيين على وسائط الاتصال الاجتماعي.
الجدل المحتدم وصل قمة هرم الدولة بعد ثلاث سنوات من بدايته بين الموريتانيين على صفحات وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي حول حقيقة معركة «أم التونسي». أنصار الحكومة والمقاومة يرون أن المعركة مثلت علامة فارقة في بطولات المقاومة الموريتانية المسلحة، وأن هذه الأخيرة تم تهميش تاريخها ودورها خلال الأنظمة الماضية، وحتى في المناهج التربوية بسبب أن استقلال البلاد تم منحه لجيل من الموالين لفرنسا.
أما الطرف الآخر، فسعى لأن يصورها كمعركة ذات طابع قبلي بين موريتانيين في تحد واضح لتيار التاريخ، فقائد المعركة هو نجل رئيس فرنسي سابق، ومعه ضباط فرنسيون وعشرات الرماة السنغاليين، الذين استخدمتهم فرنسا في جميع معاركها بموريتانيا.
مطار «أم التونسي»، الذي يقع على بعد 35 كلم شمال العاصمة نواكشوط، يعتبر من أكبر المعالم الحديثة في البلاد، وبُنِي ضمن أكبر مقاولة موريتانية داخلية، وجهز لاستقبال مليوني مسافر سنويًا، كما يضم أجنحة عسكرية، ورئاسية، وغير ذلك.
وبدأت السلطات تنظيم رحلات سياحية للموريتانيين لزيارة هذا المطار والتقاط الصور التذكارية داخل أجنحته.
لكن «الخليج» توجهت إلى بلدة «أم التونسي» ذاتها؟ ما هي هذه البلدة، وكيف حملت هذه التسمية؟ ثم ماذا جرى هنا؟ بذلك تكون «الخليج» أول وسيلة إعلام في العالم تجري تحقيقاً ميدانياً عن «أم التونسي»، البلدة، المنطقة، والتاريخ.
عند الخروج من البوابة الشمالية للعاصمة نواكشوط على طريق «أكجوجت»، تمتد العشوائيات على جانبي الطريق، مزيتها غالبا أنها مساكن بدوية لأثرياء البلاد، وبين هذه العشوائيات تتكاثر قطعان الإبل التي يبيع أصحابها الحليب الطازج، تستمر الطريق عابرة كثيبات رملية صغيرة حتى تقترب من بلدة «الطويلة»، التي اشتهرت في الإعلام الدولي عام 2012 حين تعرض موكب الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز لإطلاق النار بالخطأ من نقطة تفتيش تابعة لثكنة عسكرية للقوات الجوية، هنا وعلى بعد 50 كيلومتراً شمال نواكشوط تتغير طبيعة الأرض إلى ما يعرف ب «آفطوط» وهي أرض مستوية تمتد شمالا حتى 300 كلم عند منطقة تسمى «قرارة الفرس»، إنها أرض «إنشيري»، التي يحفها من الشرق «الذراع»، وهو سلسلة كثبان وسهول عظيمة، ومن الغرب «آكشار»، ثم «أزفال»، ثم «لحمامي». إذا، وأنت تتوغل شمالاً في هذا السهل الأحمر الواسع على امتداد البصر في كل الاتجاهات، وعند الكيلومتر 82 شمال نواكشوط، وبشكل مفاجئ، تتغير طبيعة الأرض من سهل واسع منبسط يسد الأفق بلونه الأحمر وتربته الصخرية القاسية، إلى كثيب رملي أبيض، كثيب بطول 6 كيلومترات وعرض أقل من كم أحياناً، إنها تربة بيضاء قمرية، تتخللها أشجار «الفرنان»..
نباتات بطول متر واحد، خضراء أو داكنة أو سمراء بحسب المواسم، وتنافسها نباتات «آسكاف» وأشجار «تورجه».هنا..«أم التونسي» في سهل «تفلي»..
تبعد نواكشوط من هنا 82 كلم، جنوباً، ويبعدُ المحيط الأطلسي 60 كلم غرباً، وعند الحديث مع قاطني المنطقة، تفصح لغة الجغرافيا بأكثر من مكان مميز في النواحي كلها..
سهول «أكشار»..
سباخ الملح، إفطوطن، مصبات السيول.
هذا الكثيب هو مكان بئر «أم التونسي»، القديمة، التي تعود لقرون خلت، لن تعثر على البئر التاريخية، فقد تعدد الحفر مرات في المنطقة بحسب السكان، ولكن سيشدّ انتباهك على الفور ذلك النصب التذكاري على هذا الكثيب الرملي، بهذه البيداء، ومن الشكل المعماري للنصب ستعرفُ أن هناك رمزية "روحية" قصد بها هذا البناء الغريب بالنسبة لسكان هذه الفلاة.
يرتفع النصب التذكاري، بقبته المقوسة، بطول ستة أمتار تقريباً، وبعرض مترين في مترين، وهو مفتوح من الجوانب الأربع، ترتفع بداخله مسلة، ويضم فتحات وأعمدة، وشيدته فرنسا قبل 83 عاماً تخليداً لذكرى مقتل نجل الرئيس الفرنسي ماكماهون على يد المقاومة الموريتانية.
قبل الوصول إلى النصب التذكاري، بحوالي ثلاثين متراً ستلاحظ أوتادا إسمنتية مغروسة في تربة الربوة التي يعلوها النصب التذكاري، لا تحمل هذه العلامات أية حروف أو أرقام، يبدو أنها لحفظ مساحة معينة حول النصب التذكاري، الذي يتوسط الربوة التي يوجد تحتها رفات أكثر من 51 مقاتلاً بعد أن غادرها 6 آخرون بعد عشرين عاماً على وفاتهم هنا. طمس زحف الرمال مكان كل القبور، وقبل ذلك لا يبدو أن أحداً سعى لتحديد قبر فقيده عندما كان ذلك ممكنا، فذوو المقاومين الذين استشهدوا هنا تجنبوا تعليم قبور موتاهم خوفا من الملاحقة، وذوو القتلى من المجندين لصالح فرنسا، تجنبوا أيضا تحديد قبور ذويهم لأسباب مفهومة.
وهكذا طوال أكثر من ثمانين عاماً، يبدو أن الذين قدرت لهم أهدافهم البقاء الأبدي بهذا المكان، قدر لهم أيضا أن لا يميز بينهم أماكنهم.. فهم جميعاً يرقدون تحت هذه الربوة الناعمة، فليكن نعيم الجنة أعم عليهم.
عند الدخول في النصب التذكاري.. لا شك أن الفرصة تتاح لاستحضار مخطط المعركة، وما تلاها من أحداث مفصلية في تاريخ البلاد، ومن رؤية العبوات الفارغة وآثار الشواء، وعجلات السيارات، وأعقاب السجائر...
تتضح أيضاً مخلفات مشاعر الزوار..
في بلد انقسم علماؤه وأمراؤه وكبراؤه بين فتوى مهادنة الاستعمار الفرنسي، وفتوى وجوب مقاومة الاحتلال.
على جدران النصب التذكاري، تدل الكتابات الحديثة بالفحم والحبر والحفر أن الزوار المتعاقبين على النصب كانوا من أنصار الفريقين.
ما من شيء يجرح الصمت الداخلي لشخص يزور هذا المكان مثلما يفعل التفكيرُ في الرجال والمبادئ.
يورد «متنبي موريتانيا»، الشاعر الكبير ناجي محمد الإمام، الذي رافقنا في هذه الرحلة ملحوظة مهمة وهي أن الكثيب الرملي المميز ل «أم التونسي» يزيد وينقصُ طولاً وعرضاً بحسب زحف الرمال.
والمؤكد أن دولة الاستقلال تجاهلت إلى حد بعيد دور المقاومة المسلحة، وخاصة معركة «أم التونسي»، التي قتل فيها شخص يحمل رمزية سيادية لفرنسا.
وتعمدت الدولة عدم تعليم قبور ضحايا أم التونسي. التسمية عند البحث في أصل هذه التسمية لا نجد جواباً قاطعاً، والرواية الأكثر دقة تاريخياً هي التي حدثنا بها الكاتب والمؤرخ الحسين ولد محنض، وتفيد بأن «أم التونسي» استمدت هذا الاسم من أحد أولياء تونس.
ربما لا أحد منذ قرون تساءل عن سرّ هذه التسمية «أم التونسي»، هذه البلدة الواقعة في إنشيري (أرض الأولياء).

في هذا الكثيب الرملي الصغير المعروف ب«أم التونسي»، كتب التاريخ بالدم أحد فصول الشرف..

ما من أحد فجر الأربعاء 18 أغسطس/‏‏ آب 1932، يتخيل أن كثيب «أم التونسي» يستعد لحدث فارق في تاريخ موريتانيا.
حدث عنوانه في «التلغراف»، الذي وصل باريس «المقاومة تدمر الفرقة الفرنسية المتنقلة في الترارزة ومقتل قائدها» (نجل الرئيس الفرنسي).
‏في التفاصيل كانت الإدارة الفرنسية في مدينة أطار، 450 كلم شمال نواكشوط، وصلتها معلومات استخباراتية بتوجه فرقة من المقاومة نحو مركز نواكشوط، كان وقتها قاعدة عسكرية، أبلغت هذه الأخيرة بالراديو أن على الفرقة المتنقلة للترارزة التصدي للمقاومين، وقد انطلقت الفرقة المتنقلة قبيل بزوغ الشمس من نواكشوط متوجهة نحو الشمال، وحين اقتربت من «أم التونسي»، اكتشفها المقاومون البالغ عددهم 120 رجلاً، من بينهم مئة مقاوم من قبيلة «أولا أدليم»، و20 مقاوماً من عدة قبائل، وكانوا بقيادة كل من: سيدي بن الشيخ بن العروسي الدليمي، وإبراهيم السالم بن ميشان، وسيدي أحمد بن الكوري.
استغل المقاومون وضع الكثيب الرملي وشجر الفرنان المنتشر عليه، وكمنوا للفرقة ليطبقوا عليها، بادئين إطلاق النار من كل الجهات، لتكون الحصيلة مقتل الضباط الفرنسيين الستة الذين كانوا على رأسها، ومن بينهم نجل الرئيس الفرنسي ماك ماهون، وعشرة من الرماة السنغاليين، وذلك ضمن حصيلة أكثر من 40 قتيلاً وعدد كبير من الجرحى.
فيما استشهد 17 مقاوماً، من بينهم سيدي بن الشيخ بن العروسي الدليمي، وعدد من الجرحى، وغنمت المقاومة الكثير من مؤونة وعتاد الفرنسيين.
ويقول النقيب الفرنسي دوتوه لويوسكي في روايته عن هذه المعركة...
تم إبلاغ الفرقة المتنقلة للترارزة أنها ستذهب لمقارعة اللصوص وساد الصمت، وظلت موريتانيا القلقة تصغي بحذافيرها لتلك الزاوية من الصحراء حيث تعتزم فرقتان مسلحتان المواجهة.
ودون انقطاع، ظل جهاز الراديو في أطار ينادي على «أكجوجت» ونواكشوط: «أين أخبار الغزوة ماذا يدور إلى الغرب من آدرار؟». و أخيرًا نزل ضمن حشرجة جهاز الاتصال اللاسلكي TSF خبر الكارثة.
في الثامن عشر من أغسطس 1932، تمت مباغتة الفرقة المتنقلة للترارزة على كثيب «أم التونسي»، وبعد أن هزمت تماماً اضطرت للتقهقر تاركة جثة الملازم دماك ماهون DE mac mahon، وخمسة ضباط صف فرنسيين، وعشرة قناصين سنغاليين واثنين وعشرين من الحرس (المجندين الموريتانيين)، وتكبدت عدداً كبيراً من الجرحى.
من جانبه، وفي روايته عن تفاصيل المعركة التي شارك فيها، يقول المجاهد سلمنه بن عبيد الله: إن المعركة تميزت بالشراسة والسرعة وإن رجال المقاومة في هذا اليوم كانوا من الشجاعة والبسالة بمكان». بعد المعركة بادرت فرنسا، إلى بناء «نصب تذكاري» في موقع المعركة، فوق قبر نجل رئيسها (مارشال فرنسا)، ومواطنيه الذين ماتوا معه.
وقبيل الاستقلال، حطت طائرة فرنسية خاصة في بلدة «أم التونسي» أول طائرة تحط بالمنطقة، ونزلت منها فرقة فرنسية متخصصة، قامت بنبش رفات «ماك مواهون»، ورفاقه الفرنسيين، حيث تم نقلهم لدفنهم في باريس.

البطل الأخير

حظيت معركة «أم التونسي» بكل محولات النسيان والطمس على مدى أكثر من ثمانين عاماً، وقبل 2009، لم توشح الدولة الموريتانية في تاريخها مقاوماً واحداً، وفي مناهج التعليم اقتصر الأمر على «سطور جافة»، ومن المفارقة، أن أحد أبطال معركة «أم التونسي» وهو أحمد بن أبوه، توفي سنة 1995، وهو في صراع مع الإدارة المحلية التي رفضت طلبه بتشريع قطعة أرض كان يقيم عليها، بل حاولت طرده منها.
في العام 2009، تبنى الرئيس الحالي سياسة إعادة الاعتبار للمقاومة المسلحة، بدأ ذلك بدعم «الرابطة الوطنية لتخليد بطولات المقاومة»، وكذلك إطلاق اسم المقاومة على أطول شارع في نواكشوط (شارع المقاومة)، وأخيرًا.. جاءت «المعركة»... مع «مطار أم التونسي».

ومن آخر أبطال ملحمة «أم التونسي» الخالدة أحمد ولد بهدّة اللبي، وهو المقاوم الوحيد الذي تم تكريمه في تاريخ موريتانيا