شهر الصيام وتدبر القرآن عوامل النصر وأسباب العزة ومنهاج التربية ؟! / د.محمد المختار دية الشنقيطي

قال تعالى:{ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}.
وقال:{ ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}.
تدبر القرآن وواجب البيان يفرضان أن يكون الابتداء بالثناء على الله الواحد الديان،  المربي  لخلقه على مر الدوام وأن نشكره وحمد ه رب الأنام الملهم للحكمة وفصل الخطاب

 وخالق العقول والألباب الموفق للصواب والمعلم للمحكم من الكتاب والمنزل لمنهج التربية والتكوين الباسط للأرزاق، الموجب للصلاة والسلام، على رسول الرحمة الذي أنزل عليه الكتاب، وآتاه الله من لدنه الحكمة وفصل الخطاب، وكلفه أن يبيّن للناس ما نزل إليهم في القرآن على وجه التفصيل والإجمال فكان بيانه للدين الخاتم على وجه التمام والكمال، فصلاة ربي عليه والسلام.
في مبتدأ الحديث عن كيفية تدبر القرآن يحسن بنا أن نبدأ بالسؤال العلمي التربوي التقريري الذي تفرضه علينا عملية التدبر للقرآن في شهر الصيام، وهو: إذا كان هذا القرآن الذي بين أيدينا نقرأه ونتدبره هو عينه القرآن الذي كان يقرأه ذلك الجيل القرآني الرباني جيل الصحابة فيحدث فيهم ذلك الانقلاب الهائل في المشاعر والاعتقاد والتصور والوجدان والسلوك ودروب العمل كلها، ونقرؤه نحن اليوم فلا يحرك فينا ساكنا فما هو السبب يا ترى؟ وما الذي تغير فيه أوفينا فأوصلنا إلى ما نحن فيه من نكد وضعف وفشل وغثائية ، وجهل وهوان على الناس،  والله جل في علا ه يخاطبنا آمراً وناهياً، فيقول وقوله الحق:{ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين }.
وفي السياق ذاته يضيف بعض أهل القرآن للموضوع المثار مزيداً من الاستغراب حين يجيبون: أن الإسلام في مولده القوة الناهضة في العالم، لم يلبث أن ساد جنده، فكان القرآن في تلك المراحل هو الخطاب وهو المعرفة وهو الحق، أما الآن فالمسلمون حاملو دعوة الإسلام قابعون في زاوية متواضعة منهزمة جدا من زوايا التاريخ المعاصر والواقع الحضاري المعاصر رغم أعدادهم الكبيرة) والمنتشرة  في أهم مواقع وبوابات القارات في الجغرافيا والتحكم في أهم ممراتها، والسيطرة على أغلب موارد الطاقة ومصادر الثروات ؟!
أسئلة جوهرية كانت قد طرحت بشكل أو بآخر في بداية القرن الماضي في شبه القارة الهندية وحاول عدد من الباحثين تلمس الإجابة عليها أو على مضمونها جاعلين من إجاباتهم معالم طريق للنهضة على قواعد القرآن في التربية والبناء ،ومنهجا للعمل، والله جل وعلا يقول وقوله الحق:{ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}، وعبد الله بن عباس يفسر الشرعة: بالقرآن، والمنهاج: بالسنة ولعل من أبرز من تصدر للجواب على تلك الأسئلة السابقة من العلماء المعاصرين: مالك بن نبي في كتابه الظاهرة القرآنية، أبو الأعلى المودودي في كتابه المحاور الأربعة في القرآن الكريم، وسيد قطب في كتابه معالم في الطريق"جيل قرآني فريد"، والشيخ محمد الغزالي في كتابه : المحاور الخمسة للقرآن الكريم ؟
وهؤلاء العلماء المفكرون يسلكون في الدعوة لتدبر القرآن مسالك تتناغم قصدا وهدفاً مع الغرض التشريعي والأسلوب التربوي في العمل والبناء النهضوي وينطلقون في سعيهم من منطلقات القرآنية وأدوات الربانيين من علماء الأمة والاستظلال  بذلك الشعار العلمي العملي الواعي الذي رفعه فقيه المالكية الفقيه ميارة الكبير حين قال مقولته المستوعبة لثقافة عصره والواعية بمتطلبات قومه في الزمان والمكان فقال:" من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق ".
وهذا هو المفهوم الصحيح المستوعب لمنهج السلوك والعمل لنيل مراتب درجات إياك نعبد وإياك نستعين عند فقهاء أهل السنة، بل وفي المفهوم الصحيح عند أطباء القلوب الصوفية والتصوف الصحيح، والذي يعرفه أربابه بأنه:(هو من لبس الصوف على الصفا وأطعم الهوى ذوق الجفا وكانت الدنيا منه على القفا وسلك منهاج المصطفى– صلى الله عليه وسلم – وهم بذلك يوسعون المقولة الصوفية ومفهوم الجهاد والتربية عند المتصوفة، ليشمل الجهاد عندهم: جهاد النفس وجهاد العدو، ويربط التربية بمنهاج القرآن وحقائقه، وذلك ما يوضحه صاحب كتب: مقدمات في المنهج النبوي، نظرات في الفقه والتاريخ ، محنة العقل المسلم، فيقول:(فالمنهاج إذن تطبيق للقرآن وتجسيد في حياة الفرد وتاريخ البشر لتعاليمه.المنهاج عبارة عن السنة، والسنة عمل تابع للعلم، عمل تاريخي مرتب في الزمان. فلا تنافي إذن بين التعريف العام للفظة"منهج"وبين تعريف المنهاج إذا ميزنا أن المنهج كيفية بشرية للقول والتعليم والفعل، بشرية محضة، بينما المنهاج قول وتعليم وفعل، بشري نعم، لكن بكيفية جاء بها الوحي وقاد مراحلها رسول من عند الله عز وجل).
(المنهاج علم متحرر من حيث هو علم موحى به، ومن حيث هو نداء من لدن رب العالمين، من كل ثقل أرضي اجتماعي أو إثني أو تاريخي أو اقتصادي).
(ليست العبرة أن نلتمس أقصر طريق للحكم الإسلامي، ولا أن نلتمس أضمن الوسائل رأي العين، فكل طريق غير المنهاج النبوي، وهو السنة، وكل وسيلة لا يقبلها الشرع أمور مرفوضة .
العبرة أن نكتشف المنهاج النبوي في التربية، ذلك المنهاج الذي كان عملا باهر النتائج،خرج من مدرسته كبار الصحابة،عظماء الأمة، نخبة الإنسانية بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
العبرة أن نكتشف أسرار المنهاج ،المنهاج النبوي الذي نتج عنه الجهاد الخالد الذي كانت ثمرته"المعجزة التاريخية" التي غيرت العالم أعمق تغيير وأوسع تغير وأسرع تغيير .
العبرة أن نكتشف خاصية المنهاج النبوي التي بها تحول أفراد أنانيون، المحروم المستعبد منهم والسيد القاهر، والمستضعفون منهم والملأ المستكبرون، جماعة موحدة قوية تحمل همّ الجماعة، وتسعى لتحقيق أهداف الجماعة، ويموت أفراد لتبقى الجماعة وتعز.
قل لي كيف أسير،عمليا وعينيا ويوميا، على المنهاج النبوي، كيف تسير الجماعة حزب الله لتجتمع رحمة الإيمان وحكمة الإيمان فتكون الطاقة الدافعة والخبرة الإنجازية الكفيل اجتماعها بتأهيلنا لاقتحام العقبة.اقتحام وعقبة. عمل إداري وغلاب إنجازي .
قل لي كيف نتأهل، كيف نتدرب عمليا من الآن، لكي ندبر المعاملات الاقتصادية ونديرها، ونقود سياسة الدولة الإسلامية بحكمة، وننشر العدل، ونصنع البلاد، ونقسم الثروة، ونغير كل الأوضاع تغيرا يوافق ما أنزل على محمد – صلى الله عليه وسلم – وما فعله محمد – صلى الله عليه وسلم).
نعم إن أصحاب المعالجات بل والمجاهدات السابقين اتفقوا على أنه مما لا جدال فيه ولا نقاش أن في حياتنا أزمة منهجية في التعامل مع القرآن وبياناته النبوية وخاصة في الصف الإسلامي المعاصر، ولعل أبرز سبب مبدئي في ذلك أننا نشتغل حول القرآن وليس بالقرآن، وأن الاشتغال بالقرآن وفي القرآن حقيقة في حياة المسلم هو: عملً يتخذ كتاب الله أساس مشروعه، وصلب عمله ومنهاجه، تلاوة وتزكية وتعلما وتعليما! وهكذا يقول الحق تبارك وتعالى:{ أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا }.
وقد جاءت هذه الآية تحذيرا للمنافقين، أي منافقين في أي زمان وفي أي مكان ،والمنافقون هم الذين يتظاهرون بالإسلام، ويعلنون الطاعة، ويحضرون مجالس الرسول – صلى الله عليه وسلم -،ولكن قلوبهم غير مؤمنة، وأفكارهم منصرفة معرضة عن كل ما يبين لهم، ويبيتون مع ذلك المخالفة والمعصية .
والله جل وعلا يقول:{ وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا }. والهجر نوعان:هجر التلاوة والتدبر والعمل، وهجر إشاعة منهج المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين، يؤمنون ببعضه ويكفرون ببعضه .
وقد وضع الله بين أيدي هؤلاء وآولئك ما يدلهم على الحق، ويهديهم سواء السبيل، ويقنعهم، لو أرادوا لأنفسهم النجاة ،والسعادة الحقة، وهي السعادة الأبدية، قال تعالى:  { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم }،أقوم في كل صنوف الحياة ودروبها.
وفي هذا الخضم من الحديث عن المنافقين وتبكيتهم وتوبيخهم على إعراضهم عن كتاب الله وعن إتباع الحق الذي أنزل الله على رسوله – صلى الله عليه وسلم – قوله : { أفلا يتدبرون القرءان أم على قلوب أقفالها }.
فهو خطاب يرتقى فيه البيان بالمقتسمين والمنافقين وكل المعرضين عن تدبر القرآن من دعوتهم إلى التدبر، مع تلويمهم على تركه بأسلوب الاستفهام الإنكاري البليغ المؤثر، إلى توبيخهم وتبكيتهم على ترك التدبر، وتأنيبهم بأن قلوبهم مقفلة، فهي لا تسمح بدخول هداية المعرفة إليها.
وفي سياق آخر مشابه في الصورة والنتيجة يخطب الله الجميع إنذارا وتعليما بقوله جل وعلا:{ أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت ءاباءهم الأولين أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق  كارهون }.
تأنيب شديد وتهديد للذين أعرضوا عن القرآن، وهجروه، ولم يعبئوا به ولا بماجاء فيه، فلم يدبروا القول الذي أنزله الله ليفهموا دلالاته، حتى يهتدوا بهديها، ويعملوا بما جاء فيها .
وهنا يقول أهل العلم بالوحي وفقهاء التدبر الرسوخ في بحور العلم بالقرآن في مجادلتهم و محاورتهم للمقتسمين  الذين جعلوا القرآن عضين من العلمانيين والمعطلين والمشعوذين الدجالين نماذج المنافقين الجدد: (إن من كان الله ربه رضاً، وإلهه طاعة، ومحمد – صلى الله عليه وسلم قائده، فمن مخيم الجهاد يحاور وعن الحق يترجم. فإن حاور الناس ببيان القرآن وبرهان العقل فمن موقف الذي عنده ما يعطي، ولن يهدد بيانه وبرهانه السيل الجارف الذي يغرق العالم: سيل الإعلام الملحد المنصب على الأسماع والأبصار بواسطة الكلمات والمفاهيم والصور المقروءة والمسموعة والمبصرة، تحملها تقنيات الطبع وألوانه، وإخراج المخرج، وتمثيل الممثل، وفصاحة الإذاعي، وبراعة الكاتب، وقصة الفنان، وموسيقى الإيقاع، ورأس مال تجار الكذب ،وإستراتجية أجهزة الحكم).
وفي سياق آخر يدعو الحق جل وعلا الناس إلى السبيل الأقوم في التعامل مع القرآن فيقول جل في علا ه:{ كتاب أنزلنه إليك مبارك ليدبروا ءايته وليتذكر أولوا الألباب }.
والتدبر عند أهل اللغة هو: التفكر، والتفكير والتأمل والاعتبار.
ومادة الكلمة تدور حول: أواخر الأمور وعواقبها وأدبارها .
فالتدبر هو: النظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه ومن هذا نستطيع أن نفهم أن التدبر هو: التفكير الشامل الواصل إلى أواخر دلالات الكلم ومراميه البعيدة.
إن تدبر آيات كتاب الله ذات المعاني المباركة التي لا ينضب معينها، يحتاج إلى بصيرة منيرة وفهم ثاقب: وأهل الرحمة ويقصد بهم:أهل العلاقة القلبية بربهم، وأهل الحكمة: هم أهل العقول والبصيرة، والله جل في علاه يقول وقوله الحق في محكم تنزيله:{ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا}.
ولا شك أن من أهم مفاتيح القرآن، أن يتدبره الناس، وأن ليس من أغراض التدبر مجرد الترف العلمي، والافتخار بتحصيل المعرفة، والتوصل إلى كشف المعاني للتالي بمعرفتها واكتشافها، وإنما وراء الفهم غرض التذكر والعظة والعمل بموجب العلم .
والتدبر المقصود لا يحظى به إلا أولو الألباب، وهم أهل العقول الحصيفة، والأذهان النظيفة، والقلوب الشريفة .
وفي مجال نتائج الفهم والتدبر لطالما أبهر ني حديث بعض الصالحين التالين لآيات القرآن حين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا، إذ يتحدثون عما يرونه من فرق مبهر في حياتهم، وعن فرقٍ عظيمٍ في فهمهم وصحة نظرهم واستقرار تفكيرهم؛ ببركة هذا القرآن يعيشون ويعايشون ممارسة وقولاً وعملاً قول الله تعالى:{ ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}.
ويستمتعون وينالون بركة ورحمة:{ وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا }.
الرسول– صلى الله عليه وسلم-المعلم القائد القدوة والأسوة والشفيع يقول:" إن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدا "، وفي رواية:"إن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه الآخر بيد من أخذ به من عباد الله الصالحين".
ولقد أجمع العلماء والدعاة على أنه لا عزة ولا قوة ولا تربية قاصدة لهذه الأمة إلا بهذا الدين – كتابا وسنة – وأن هذا القرآن هو منهاج حياة .. وإنه لن يكون كذلك في واقع الناس، أفرادا وجماعات ومؤسسات ! إلا باتخاذه مشروع حياة ،تفنى في سبيله الأعمار ! قال تعالى :{ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
وهذه الآية كما يقول العلماء فيها ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: {إن صلاتي} الآية : مقام التسليم لله ودرجة التفويض إلى الله بناء عن مشاهدة توحيد ومعاينة يقين وتحقيق فإن الكل من الإنسان لله أصل ووصف، وظاهر وباطن، واعتقاد وعمل، وابتداء وانتهاء، وتوقف وتصرف، وتقدم وتخلف، لا شريك له فيه، لا منه ولا من غيره يضاهيه أو يدانيه .
وهذه قضية منهجية أساسً لتلقي موازينه الربانية، والتخلق بحقائقه الإيمانية، حتى يصبح هو الفضاء المهيمن على حياة المسلم كلها دينا ودنيا، قال تعالى:{ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار }.
ومن هنا كان لا بد لأولى النهى والأبصار المتدبرين للقرآن أن يدركوا إدراكا  كليا وجليا الأهداف الكلية العامة والتي جاء القرآن لإنشائها وبيناها في نفوس وحياة المؤمنين وقد عمل النبي – صلى الله عليه وسلم على توضيحها وسعى إلى تجليتها وتحقيقها عمليا في حياة المسلم وهي :
أولا : هداية الإنسان إلى الخير العميم في دنياه وآخرته وتعريفه على كل ما يحقق ذلك، وتحذيره من كل ما يسبب شقاءه وعذابه وخسارته في الدنيا والآخرة وتحذيره القاطع أن هذا لا يكون إلا في سلوك طريق الله الواضح وصراطه المستقيم .
ثانيا : تكوين الشخصية الإسلامية المتكاملة والمتوازنة وذلك بتربية الفرد المسلم تربية شاملة متوازنة وصياغة أفكاره وتصوراته الصائبة والتأثير في سلوكه الحياتي المتميز، وبمعنى آخر يجعله الصورة العملية الواقعية لمبادئه ونصوصه بحيث يظهر وكأنه قرآن حي متحرك كما قالت أمنا أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – في جوابها على سؤال ابن أختها عن خلق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقالت:"كان خلقه القرآن".
والله جل وعلا يقول وقوله الحق:{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } .
وقال:{وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ }أي قرآنيين .
ثالثا : إقامة مجتمع إسلامي بمناهج وقيم فريدة وبناء أمة إسلامية متينة بخصائصها ومميزاتها وأهدافها وإنشاء جيل قرآني رباني فريد على قواعد خاصة من التربية القرآنية المتكاملة تحقيقا لمفهوم الجيل الرباني القرآني الفريد القادر وحده على تحقيق الفاعلية والريادة للأمة في العالم .
رابعا : قيادة هذه الأمة في معركتها مع الجاهلية في كل مكان وزمان وتثبيت معالم طريقها وبيان طبيعة تلك المعركة وبواعثها وأسلحتها والكشف عن أعدائها ببيان أهدافهم وكشف بواعثهم وإحباط مكرهم وتصوير نماذجهم، لتكون هذه الأمة على بصيرة من أمرها وعلى هدى في حياتها ووضوح في طريقها وانتصار في معركتها، المعركة والتي يشترك فيها عندئذ أهل الأرض والسماء تخطيطاً وتنفيذاً، يقول الله جل في علاه:{ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين امنوا سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب  }.
خامسا : تأسيس منهج التيسير والرحمة، فالقرآن في وظيفته وطبيعته وخاصيته، جاء ليضع عن الناس الإصر والأغلال، وليعبد لهم طريق المنهج السوي للتدين، كما يخبرنا ويبين لنا رسول الرحمة ومعلم الحكمة والبصيرة– صلى الله عليه وسلم -فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي –صلى الله عليه وسلم – أنه قال: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا ابشروا، استعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة".
وفي رواية له:"سددوا وقاربوا اغدوا وروحوا، وشيءٍ من الدلجة القصد القَصد تبلغوا".
إن الوقوف العلمي في رمضان مع القرآن، والدراسة الواعية لكل نصوص الوحي (القرآن والسنة)، يتبين لك ودون عناء أن جميع نصوص الوحي تنقسم ودون استثناء على تحقيق وتجلية هذه الأهداف الخمسة وما يؤول إلى تحقيقها، والأسلوب القرآني في تجلية وتحقيق هذه الأهداف هو أسلوب البيان الراقي المشتمل على أبلغ صور البيان المعروف عند أهل الفصاحة والبيان .
إن من المعروف في النصوص الأدبية البليغة الرفيعة أن النص- وخاصة التشريعي : المشتمل على الأمر والنهي– قد يكون موجها لعدة أهداف، وهذه الأهداف كلها مقصودة من النص، ويظهر هذا بجلاء حينما يكون المخاطب به جماعة ذات فئات مختلفات، وعناصر متباينات .
فمن أمثلة النص ذي الهدف المزدوج أن يوجه ذو سلطان عام تهديده الشديد للذين يخالفون أوامر مبعوث من قبله، للقيام بمهمة من المهمات السلطانية .
إن من ما نلاحظه في النص القرآني التهديدي هدفين معا: أحدهما: تهديد الذين يخالفون .
ثانيهما: تقوية نفس المبعوث، وشد أزره وشحذ همته للقيام بما بعث به على أفضل وجه.
وقد يكون النص مثلث الهدف، أو أكثر من ذلك، وكل صاحب علاقة يأخذ من النص ما يناسب حاله .
ويكثر هذا في النصوص القرآنية، فقد يكون النص تهديدا وتوعدا للكافرين، ووعدا للمؤمنين، وتربية وتأديبا وتسلية للرسول صلوات الله عليه .
وعلى المتدبر الدارس للقرآن الباحث عن مناهجه في التربية والتعليم والبناء أن يستحضر الأهداف الكلية للقرآن دائما، ويلحظ هذه الخصائص في البيان عند تلاوته لنصوص الوحي .
فالقرآن من خصائصه أن : فيه مناهج التعليم والتوجيه والتربية للجميع، من الرسل أول مبلغ به، وأول مؤمن به، والمأمور بأن يبلغه للناس، حتى أدنى الإنس والجن، وحتى أعتى كافر به،  وأشد معاند لما جاء به .
والأمثلة على ذلك من القرآن مستفيضة جلية منها :
أولا : قال تعالى:{سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقى ولا تذر لواحة للبشر عليه تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين ءامنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ما ذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله  من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر }.
يقول علماء أسباب النزول إن القائل لهذا الجحود هو: الوليد بن المغيرة، وعلى كل حال هذه الآيات نزلت في معرض الحديث عن إمام من أئمة الكفر إذ جحد أن القرآن كلام الله بعد أن استيقن في نفسه أنه ليس من كلام البشر،فأدبر واستكبر، فقال جحودا وعنادا:{إن هذا إلا سحر يؤثر، إن هذا إلا قول البشر}.
ثم تحدثت الآيات عن المبعوثين من قبل الله عز وجل المكلفين بعذاب المعاندين والكافرين وبينت أنهم من الملائكة الكرام، بهم يبتلى الناس وهم عباد مكرمون {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} .
فالخبر واحد، والخطاب واحد، لكنه موجه لعدة أهداف، وهذه الأهداف كلها مقصودة من النص، وموجه لأصناف الناس على اختلافهم فيما بينهم، ورد فعل كل صنف منهم يكون بحسب واقع حاله اتجاه ما يبلغه الرسول-صلى الله عليه وسلم– عن ربه .
والغرض من بيان عدد خزنة جهنم بالنسبة إلى الذين كفروا سواءً أكانوا من غير أهل الكتاب، أو كانوا من أهل الكتاب، هو امتحانهم، وابتلاء أفكارهم وعقولهم، واستخراج ما في نفوسهم من كفر واستهزاء .
والغرض من بيان عددهم بالنسبة إلى الذين آمنوا، وبالنسبة للذين أوتوا الكتاب أيضا: أن يزدادوا إيمانا، إذ يجدون هذا الخبر مطابقا لما في كتب أهل الكتاب من أخبار صحيحة لم تحرف، مع أن الرسول-صلى الله عليه وسلم- أمي لم يطلع على  شيء من كتب أهل الكتاب، وأن لا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون مستقبلا في أي خبر يخبر به الرسول– صلى الله عليه وسلم .
المثال الثاني: قال تعالى:{والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى }.
روى البخاري في صحيحه عن جندب بن سفيان البجلي قال: اشتكى رسول الله– صلى الله عليه وسلم– فلم يقم ليلتين أو ثلاثا، فجاءت امرأة فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثا، فأنزل الله عز وجل عليه:
{ والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى} .
وروى الحاكم من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم، قال: قالت امرأة أبي لهب، لما مكث النبي– صلى الله عليه وسلم– أياما لم ينزل عليه الوحي: يا محمد، ما أرى شيطانك إلا قد قلاك، فنزلت:{ والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى}.
وروى ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن جندب قال: أبطأ جبريل عن النبي–صلى الله عليه وسلم- ، فقال المشركون: قد ودع محمد، فنزلت:{ والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى } .
وهو خطاب موجه بصريح الخطاب للرسول– صلى الله عليه وسلم– تسلية له، وتطمينا، وتكريما، ووعدا بمستقبل عظيم .
وموجه مع الرسول للمؤمنين تثبيتا وتمكينا، ومسرة لقلوبهم بتكريم الله لقائدهم، ورسول ربهم الذي آمنوا به واتبعوه، وشفاء لصدورهم من الذين أشاعوا أن رب محمد قد قلاه .
وموجه أيضا لمشيعي الشائعة المفتراة، ولسائر مؤيديها من الكافرين، بهدف مكايدتهم وإعلان خيبتهم في إشاعتهم الكاذبة، وأن مسعاهم الإعلامي أحبطه الله .
المثال الثالث: قال تعالى:{ ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب}.
فالله يخاطب نبيه–صلى الله عليه وسلم– بقوله: إذا أحزنك أو آلمك يا محمد استهزاء الكافرين بك، فقد جاء من قبلك رسل كثيرون قد استهزأ بهم الكافرون من أقوامهم، فأمهلت هؤلاء الذين كفروا ولم أعجل لهم العقاب– أي: لأن الحكمة تقتضي إمهالهم– ثم أخذتهم بالعذاب الشديد الذي قصصت عليك طائفة من أخباره فيما أنزلت عليك قبل هذه السورة، فكيف رأيت ما كان من عقابي لهم ؟ ألم يكن عقابا شديدا ؟
وهو موجه كذلك بصريح الخطاب للرسول– صلى الله عليه وسلم-تسلية له وتطمينا .
وهو مع توجيهه للرسول– صلى الله عليه وسلم– موجه للمؤمنين تثبيتا لهم  وتطمينا بنصر الله وتأييده لرسوله وللمؤمنين معه .
وهو موجه أيضا للمستهزئين ولكل مؤيديهم من الكافرين، بالله يملي لهم ليقطع أعذارهم ، فإذا لم يتوبوا نزلت بهم المهلكات، كما نزلت بالمستهزئين بالرسل من الأمم السابقة .
ومن هذه الأمثلة يتبين لنا أنه مما لا شك فيه عند عاقل يدرك خصائص الدين ومقاصد القرآن : أن اتخاذ القرآن أساس العمل الدعوي، ليس معناه إلغاء وسائل العمل الإسلامي الاجتهادية، سواء كانت اجتماعية، أو سياسية، أو اقتصادية، أو إعلامية، أو ثقافية.. يتابع