تعرف محظرة أخذت من الشهرة ما أخذته محظرة أهل محمدسالم التي كانت ولا تزال مضرب المثل في الموسوعية وعمق المعرفة وكثرة العلماء وتوارد الطلاب وكثرة الإنتاج العلمي والتآليف النادرة، ويمكن دون مبالغة اعتبار المحظرة محمدسالم أم المحاظر الشنقيطية كلها، والمشرع الذي تفرعت عنه أغلب المحاظر الموريتانية، بل تجاوز صداها وإشعاعها البلاد كلها، ليصل إلى أصقاع متعددة من إفريقيا والمغرب والشرق الإسلامي.
وكانت المحظرة السالمية بين معاهد العلم ومناهل التقوى والتربية والإصلاح بمثابة الرأس من الجسد والطراز العالي في تاريخ العلم والعلماء في موريتانيا
وقد بدأت هذه المحظرة مع مؤسسها الأول الشيخ محمد بن محمد سالم بن محمد سعيد بن بن محمد بن عمر بن أبي السيد بن أبي بكرالمجلسي الأموي- الذي نشأ في حضن والده محمد سالم الموصوف بأنه كان عالما جليلا حافظا لمتون المذهب واللغة العربية، صالحا سائحا- أسس محظرة بلغت في عهده شأوا بعيدا في العلم والإصلاح والتربية، وأصبحت جامعة عالية الرتبة متعددة الكليات كثيرة الأساتذة، وحلت مكانا لم يكن حل من قبل، يزدحم عليها الطلاب من كل حدب ويفدون إليها من كل قطاع من البلاد.
محمد بن محمد سالم ..شيخ الريان وهاتك أستار المختصر
ومحمد قد صام عن شهواته
فلذلك أدخل مدخل الريان
اجتمعت كلمة المؤرخين في هذه البلاد على تميز شخصية العلامة محمد بن محمد سالم، فهو الفقيه المجتهد والإمام المفسر واللغوي الضليع، والمصلح المربي والجواد المنفق والولي الصالح المجاب الدعوات المشهود المكاشفات.
يقول العلامة اباه بن محمد عالي بن نعم العبد في مقدمة كتاب “منح العلي”
“أما مؤلِّفُ الشَّرحِ فهو العالِمُ العلامة مالكُ أزِمَّةِ الفضائل والسالك، من طرق العلوم أحسن وأفسح المسالك، يعود نسبه إلى عبد الله بن عُمَرَ بن عبد العزيز. وكان محمد سالم من أهل العلم والفضل، وكان حافظاً لكتاب الله العزيز، له معرفة خاصة بالفقه الخليلي. وغالب سكنه في مناطق تيرِس وآكشار وآمساكًـه، وكانت هذه الأسرة ومن تفرع عنها تُمَثِّلُ الأخلاق الْمَجْلِسِيَّة من النخوة والأنَفَةِ وإباية الضيم والجود والكرم .. وفي هذه البيئة البدوية والناحية الشمالية الغربية من القطر الشنقيطي، والأسرة العلمية المتنقلة صيفاً وشتاءً، ولد لمحمد سالم بن محمد سعيد ابناه الْخَيِّرَان: أحمد ومحمد، من أمهما حفصة بنت سيدي محمد بن عبد الله بن المختار التيشيتي. وقد توفي عنهما والدهما في وقت مبكر من نشأتهما، فنشئا على النهج نفسه الذي كان عليه أبوهما وجدهما.."
ولد الشيخ محمد بن محمد سالم في 1203 هجرية، وتوفي في حدود 1302 عن عمر ناهز التاسعة والتسعين، عامرا بخصال الفضل وطلب العلم وبذله، والتآليف الجليلة والتربية والإصلاح.
ومن أشهر من أخذ عنه الشيخ محمد بن محمد سالم والده محمد سالم بن محمد سعيد، قبل أن يغادر الحياة، كما درس على أمه حفصة بنت سيدي محمد الملقبة امت، وعلى خاله محمد بن سيدي محمد، و على شيخه حامد بن عمر البارتيلي وقد أقام معه فترة طويلة ونهل من علمه ومعرفته.
فكان يخرج في رعي إبله يحمل بعض الكتب ويسير أمام الإبل في المرعى ثم يجلس في ظل شجرة أو صخرة ويضع كتبه أمامه فيشتغل بالمراجعة والتأليف والكتابة، فإذا بعدت عنه الإبل سار حتى يتجاوزها فيجلس أمامها، ثم لا يزال كذلك حتى يحين وقت العودة فيحمل كتبه ثم ياخذ معه “رأساً من الحطب في طريق العودة.
غير أن الجانب الكبير من دراسة الشيخ محمد بن محمد سالم كان بحثا ومدارسة ومقابلة بين الكتب التي كان لها حليفا لا يفارقها، ويغالي في شرائها ونسخها، وهو ما ظهر بكثرة في تعدد مراجع ومصادر مؤلفاته، وكثرة نقوله.
وقد عرف العلماء لمحمد بن محمد سام مقامه، حيث يفضله الشيخ محمد المامي رحمه الله على جميع أهل عصره قائلا
فما حمل الحدوج على الجمال
وما حمل النساء من الرجال
كمثلك يا محمد بشرتنا
بك الأيام فيها والليالي
ويصفه العلامة محمد عبد الله بن البخاري بن الفلالي بأنه خير تال للنبيين
أحق بدء بتقريظ وتأبين
من كان في المهد بدء داية الدين
أعني محمد الأسنى نجل سالمنا
محمدا خير تال للنبيينا
محظرته وتلاميذه
تأسست محظر ة أهل محمدسالم في تيرس الغربية على يد الشيخ محمد بن محمدسالم، وعاشت طيلة حياة صاحبها وبنيه في الشمال. ورغم قساوة الطبيعة وشح المصادر فقد ازدهرت ازدهاراً منقطع النظير، حيثقامت على ظهور الْعيس في حل وترحال دائبين..
ونحن ركبٌ من الأشراف منتظمٌ أجلُّ ذا الخَلْق قَدْرًا دون أدنانا
قلائدُ المجد في أعناقنا نُظِمت عِقْدًا وكنّا لعين الدَّهر إنسانا
بمالنا سُمَحا بعِرضنا بُخَلا نجرُّ فوق أراضي العزِّ أردانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة فيها نبين دين الله تبيانا
وربما وقع الخصب وازدهرت الأرض فألقت المحظرة عصا التسيار وازدهرت حياتها العلمية.
ومما قيل في هذه المحظرة: أن بداية محظرة آل محمد سالم هي نهاية غيرها من المحاظر.
حتى وجعلها الشيخ سيديا الكبير المثل الأعلى في زمانها.
اجتمع على العلامة محمد بن محمد سالم المئات من الطلبة من أنحاء موريتانيا، وكانت ثريا كريما، بل لعله كان من أول من اعتمد نظام "السكن والمنح الطلابية" حيث كان الطالب يصدر عن شيخه مفعم الذاكرة والقريحة بشوارد العلم وأوابد الفقه، عامر الوجدان بلألاء الورع والتزكية، وافر ذات اليد من المال، يسوق إلى أهله الإبل، فيقيم محظرته وينشر بين الناس ما عرف وشاهد من السيرة السالمية العطرة.
وفي مختلف طبقات طلابه وكثرة المنحدرين من جميع الأقطار إليها يقول العلامة عبد الله بن أحمدُ بن محمد سالم، من قصيدة له في رثاء محمد:
سَلِ الزوايا وسائل عنه حسانا = واسأل دُلَيْماً وداماناً وديْمانا
سل الكرام بني يعقوب عنه وسل = مجالس العلم واسأل عنه جاكانا
سل إيدَوَعْلِ وسل ابنا أبي حسن = واسأل كرام بني أبْيَيْرِ تبيانا
والغر من تندغَ الشُّمَّ الألَى عرفوا = أفاضل الناس في اللأواء عرفانا
وسائلن عنه الاشراف الكماة بني = أبي السباع تُجَبْ سرّاً وإعلانا
سل عنه من شئت ممن أنت تعرفه = وسائلن عنه هيَّان بن بَيَّانا.
وقد أخذ عن الشيخ محمد بن محمد سالم أجيال من الرعيل الأعلى والأجل من علماء موريتانيا ومنهم على سبيل المثال:
وغيرهم كثير
وقد امتاز تلاميذ الشيخ محمد بن محمد سالم بعمق التأثير المعرفي في أنحاء البلاد، فكان لكل منهم محظرة عامرة وتاريخ علمي عاطر وجليل.
وقد ترك الشيخ محمد بن محمد سالم مؤلفات عظيمة جدا من أهمها:
وقد أخذت كتب محمد بن محمد سالم جانبا مهما من التأثير والاهتمام عند علماء البلاد فتقاطرت عليها التقريظات والإشادات ومن ذلك قول العلامة ببها بن العاقل
طربتُ شوقاً وما شوقي إلى الحور = ولا اللمَى بذوات الدَّلِّ والخَفَر
ولا لربعٍ بذات الضَّالِ من أجَلى = ولا أجارع من أنجادِ ذي عشر
لكن طربتُ إلى روضٍ كساهُ أبو = عذر المسائل ألواناً من الزَّهر
من كان ذا نظر ألهته رؤيته = وطيب أزهاره عن ذلك الوطر
فزُرْهُ إن شئتَ تبصرْ كلَّ ما عَجَبٍ = بين “اللوامع” و”الريان” و”النهر
أما الشيخ محمد المامي فيقرظ كتاب اللوامع قائلا
نهج اللوامع مثله مفقود = بين الأنام ومدعيه حسود
جادت به من نجل سالم فكرة = ما إن لها في العالمين وجود
أبدى غوامض من خليل مالها = من قبله في السالفين ورود
كنت المبجل والوحيد ومن له = بين الورى في الصالحين خلود
لا زلت تقتاد العلى بزمامه = بطل النوائب والرجال رقود
تترى إليك من الورى هاماتها = ولدى فنائك ركع وسجود
وكان رحمه الله تعالى حليماً متواضعاً حسن الخلق، منفقاً تعيش الفقراء والضعفاء في كنفه، ثمال اليتامى عصبة للأرامل،
قاد الندى بعنانه فذهابه بذهابه وايابه بإيابه.
وتوفي رحمه الله تعالى مع بداية القرن ال14 الهجري، وأرخ لوفاته
أبوبكر بن احجاب الديماني:
وشبرق في ديننا ذو ثلم لموت فيه العالم المعلم
محمد التقي نجل امحمد سالم ما أنجبه من والد.
وبذلك غاب العالم العامل المنفق محمد بن محمدسالم عن هذه الدنيا وأفلت شمسه يوم الجمعة صلاة الظهر آخر يوم من شهر ذي الحجة مقبلا على الله معرضا عما سواه:
شمس صحو لما تجلت وجلت فهي منها حقائق تتجلى
أجيال العلماء ..كراسي الموسوعية ومنابر الإيمان
خلف الشيخ محمد بن محمد سالم أبناؤه وحفدته في محظرته التي توزعت إلى محاظر متعددة، يقوم عليها تدريسا وتربية وإنفاقا أبناء الشيخ وحفدته وتلاميذه.
ويمكننا أن نستعرض على سبيل المثال عددا من أجلاء العلماء الذين أنجبتهم هذه المحظرة العريقة.
وقد ترك الشيخ أحمد بن محمد سالم عددا كبيرا من الأنظام قدرت بأزيد من 100 نظم في مختلف فنون الفقه واللغة، وله ديوان وافر من أشهر قصائده مديحيته الشهيرة:
ياللشريعة من إحدى دواهيها
لقد أصيبت بمفتيها وقاضيها
ياللمدارس من نعي النعاة له
كأن ناعيه بالأمس ناعيها
أجل خطب من الدنيا وأفظعه
هدم العلوم بموت العلم بانيها
تسيل على من جاء يسأله ماله
وسائل سيب تستهل كعابه
فسائله بالعلم سود طروسه
وسائله بالمال بيض قعابه
أحمد ولد النيني ...شيخ السالمية
ما تزال الحضرة السالمية عامرة بالعلماء والفتيان والمدرسين، وإن لم تكن كما كانت في تعدد العلماء وكثرة المحاظر، وإقبال الطلاب، لظروف منها التمدن وانتشار أبنائها في مختلف مناطق البلاد.
وإمام المحظرة السالمية اليوم وشيخها وأستاذها هو العلامة أحمد بن محمد الأمين (النيني) بن حمد الله (عبد الله) بن محمد بن محمد سالم، ومن محظرته في عرفات يواصل هذا الشيخ الجليل تدريس مختلف الفنون المحظرية، إضافة إلى الإفتاء، ويقبل عليه الطلاب من مختلف أنحاء البلاد ومن خارجها، ومن بينهم على سبيل المثال تلاميذ من المغرب والجزائر ومختلف دول إفريقيا الغربية.
وفي يوميات التدريس والإفتاء يتمثل الشيخ أحمد ولد النيني المحظرة السالمية في موسوعية الإقراء وفي ثراء الشواهد ووسائل الإيضاح، وفي سهولة العبارة، وفي الحنو على التلاميذ، ومنحهم الوقت والرعاية ومحضهم النصح، والتربية سائرا بذلك على سنة آبائه، ولكل قوم سنة وإمامها.
ميزات المحظرة السالمية
امتازت المحظرة السالمية بكونها كانت مركز التوازن والإشعاع الحضاري في شمال أرض البيظان، فامتد صداها إلى مختلف المناطق الناطقة بالحسانية، لتجمع في ذلك بين صدى علمي سار شرقا وجنوبا وشمالا، حيث تمر عليها أغلب أسانيد الفقه في هذه البلاد، وهو ما يجعلها علامة مميزة لهوية الأمة الموريتانية.