التّفرنُسُ ليس حلاّ / عبدولاي يريل صو

كثير من الكوار المتعلّمين بالتعليم الفرنسي؛ يرون أنّ اعتماد اللّغة العربيّة لغة رسميّة كما ينصّ الدستور الموريتاني، ليس إلاّ خطوة استراتيجيّة طويلة المدى تهدف إلى تعريب كلّ المكوّنات الشعب الموريتاني عبر تهميش لغاتها وثقافاتها، حتّى تصبح اللغة والثقافة العربيّة (الحسّانية) هي وحدها سيّدة الموقف

 على مستوى الوطن كلّه كما حدث في شمال السودان، وأُريد لجنوب السّودان أن يحدث له ذلك أيضا ولكنّهم رفضوا، ويا ليتهم كانوا قبلوا ذلك! لأنّهم بعد انفصالهم عن السودان الأمّ لم يعتمدوا إحدى لغاتهم الأمّ الكثيرة ( أشهرها: الدِنكا، النُوير والشِيلوك) لغة رسميّة بدلا من العربية، وإنّما اعتمدوا الإنجليزية بدلا منها رغم أنّهم يتفاهمون باللّغة العربيّة المكسّرة المسمّاة بعربية "جوبا". إنّ حالة هؤلاء الموريتانيين شبيهة تماما بحالة جنوب السودانيين هذه، برفضهم العربية لكن مع عدم استخدام لغاتهم الخاصّة فيما بينهم، ويتبجّحون باستخدام الفرنسيّة فيما بينهم (المكوّنات غير العربية)، وبينهم وبين جيرانهم الآخرين من الناطقين بالحسّانيّة بحجّة أنّها هي اللّغة الوحيدة التي تجمعهم...
   في العام 2014 حضرت احتفالا بيوم الفرانكوفونية الذي نظّمه طلاّب جامعة "سينغور" الفرنكوفونية الموجودة في الإسكندرية، وتمّ الاحتفال بدار أوبرا المصرية بالقاهرة، سمعت رئيس تلك الجامعة وهو فرنسي يقول: "الفرنكوفونية وحدها القادرة على توحيد شعوب القارة الأفريقيّة". أن نسمع مثل هذا الكلام من أكاديمي أو سياسي فرنسي ليس غريبا أو عجيبا، ولكنّ كلّ الغرابة والعجب أن نسمعه من سياسي موريتاني، أو من يدّعي أنّه متعلّم ومثقّف؛ يناضل من أجل وطنه أو حقوق مجموعته الثقافيّة والسياسيّة، ويقول أنّه لا يتحدّث مع وسائل الإعلام الموريتانيّة إلاّ بالفرنسيّة، مع أنّ من يفهم تلك اللّغة من مجموعته لا يتعدّى على أصابيع الواحدة! هذا التّمسّك بالفرنسيّة وعدم استخدام اللّغات الوطنيّة التي يفهمها جمهورهم المفترض؛ هو ما جعل تأثير أحزابهم في المجتمع الموريتني محدودا جدّا، بل لا يكاد يُذكر أصلا. إضافة إلى عدم اهتمامهم بالقاعدة الشعبيّة إلاّ في المواسم الانتخابيّة، وعادة ما يجدون أنّ كثيرا من جمهورهم قد استُقطِب من طرف الأحزاب والحركات النشطة الموجودة على السّاحة بشكل شبه مستمرّ. محدوديّة تأثيرهم على المجتمع هذه شيء طبيعي ومتوقّع، لغياب خطط استراتيجيّة ومشاريع جذّابة التي تشجّع الشباب على الانتساب إلى تلك الأحزاب. كما أنّ تربّع شخصيّات معيّنة كبيرة في السنّ على قمّة هرم تلك الأحزاب دون تغيير أو إشراك الآخرين في القيادة، أدّى إلى عزوف الفئات الأصغر سنّا عن الإلتحاق بركبهم، وضخّ دماء جديدة وحماسة في نشاطاتهم المحدودة أصلا...
   طبعا من حقّ كلّ إنسان أن يرفض تغيير ثقافته أو قتلها عن طريق تهميش وإقصاء لغته، أو بفرض لغة وثقافة أخرى عليه، ولكن فليكن ذلك بالتّمسّك والاهتمام والاعتزاز بلغته وثقافته وتطويرهما، وليس بالتّمسّك بلغة أخرى مهما وصلت شهرتها. وفي الحالة الموريتانية أيضا؛ من حقّ أصحاب اللّغات والثّقافات الأخرى غير العربيّة، الخوف عليها من الذوبان والانقراض، ولا سيّما أنّهم يجاورون أسرع اللّغات والثقافات في الانتشار في الظرف الحالي- ويعملوا من أجل ترقية شأنها وتعليمها لأطفالهم على الأقلّ في المدارس، والسماح باستخدامها في كافّة مؤسّسات الدولة وخاصّة الجمعيّة الوطنيّة و في المحاكم. هذا لا يعني تقليل شأن اللغة الفرنسيّة أو الدعوة إلى تركها وعدم تعلّمها، لا، وإنّما فقط تنبيه إلى أنّها لا ينبغي أن تكون بديلة للّغات الوطنيّة. أو بعبارة أخرى، إذا كنتم ترفضون التعريب خوفا على هويّتكم؛ فالتفرنُس أيضا ليس حلاّ، كأنّكم تستجيرون الرمضاء بالنّار، لأنّ مخاطر الفرنسيّة على تلك اللغات والثّقافات أكبر بكثير من تلك التي في العربيّة –إن وجدت- لكون اللغة العربيّة لغة وطنيّة وجزء لا يتجزّأ من منظومة ثقافيّة لكلّ الموريتانيين باختلاف أعراقهم، عكس اللغة الفرنسية الأجنبيّة رغم كونها لغة عالميّة مهمّة، وما زالت تُستخدم في دوائر الدولة المختلفة ويستخدمها المسئولون والمثقّفون فيما بينهم، إلاّ أنّ ذلك لا يبرّر أن تكون هي حلقة الوصل بين الموريتانيين...