علم الجهل وهندسة التجهيل!

حد الوجوب فمن الضروري أن تكون تلك الدهاليز المظلمة، والسراديب الرطبة المعتمة التي تربطها ببعضها تلك الممرات التي تكسوها مادة لزجة ذات رائحة نتنة للغاية، تلك الأماكن المخيفة والمقرفة تستهوي أناساً بعينهم، إنهم السياسيون ومدمنو السياسة، وهذه هي السياسة بعينها -حسب اعتقادي- حقيقة لم أستطِع وصفها بغير ذلك بعد تفكير وتركيز عميقين، لا أدري لماذا؟! فقد عرف المفكرون أن السياسة هي “فن الممكن”، فأن تختار لنفسك العيش في أماكن مماثلة من دهاليز النفس والضمير والوجدان لهو بالفعل فن بحد ذاته، لا يقوى على ممارسته إلا القلة.

حقيقة، معظمنا يعلم ذلك الوصف عن السياسة ومتعاطوها من السلطويين وعبيدهم، أو معظمنا على الأرجح خامره اعتقاد مماثل عن السياسة، لكن ربما أن ما سأفصح عنه خلال هذا المقال سيكون بمثابة قنبلة من مفاجآت عالم السياسة والسياسيين، وربما أنه سيجعل الكثيرين يراجعون تلك المعتقدات عن سياسيين مشوا خلفهم وآمنوا بهم أشد من إيمانهم بالله، وربما أنهم سيسترجعون كثيراً من الأحداث صنعها هؤلاء السياسيون لطالما ألبست عليهم الأمور كمؤيدين وجعلتهم حيارى يهيمون في ملكوت عبوديتهم تلك.

نعم إنه علم الجهل “Agnotology” كالعنوان تماماً، وهو علم يهتم به وبتعلمه السياسيون والسلطويون، فلا وجود لشيء اسمه سياسة أو سياسي دون أن يكون مُلمّاً بعلم الجهل، والغريب في الموضوع أن قوانين هذا العلم لا يمكن للسياسي أو السلطوي تطبيقها إلا على الشعب بشكل عام ومؤيديه من الشعب بشكل خاص، وهذه حقيقة كما أن الماء يتكون من ذرتين من الهيدروجين وذرة من الأكسجين.

في البداية بدأت تظهر القوانين التي أسست لعلم الجهل حين اشتد الصراع بين السلطويين والسياسيين على السلطة والاحتفاظ بها ﻷطول أمد من خلال امتلاك المعرفة ومصادرها، فقد أدرك السلطويون منذ فجر التاريخ أن امتلاك المعرفة يوازي في أهميته امتلاك القوة والعتاد والقوى البشرية؛ لذلك ظهر قبلاً علم أطلق عليه علم إدارة الفهم واﻹدراك “Perception Management” بين أوساط السلطويين والسياسيين، وقد عرفت وزارة الدفاع الأميركية علم إدارة الفهم بـ”أنه نشر لمعلومة أو معلومات، أو حذف معلومة أو معلومات ﻷجل التأثير على تفكير الجمهور والحصول على نتائج يستفيد منها أصحاب المصالح” غير أن هذا النشر أو الحذف يتطلبان دراية كافية باتخاذ خطوات وأساليب دقيقة للغاية إلى جانب المعرفة التامة بعلم النفس والسلوك، فقد قام باحث بجامعة ستانفورد بالولايات المتحدة الأميركية “Robet Proctor” بصياغة مبادئ أطلق عليها “علم الجهل” Agnotology وهو العلم الذي يدرس صناعة ونشر الجهل بطرق علمية.

في الحقيقة رغم أن السلطويين بشكل عام والعرب منهم بشكل خاص -بل شديد الخصوصية- مارسوا على شعوبهم سياسات الجهل والتجهيل بطرق رصينة للغاية، فإن علم الجهل هذا ظهر حديثاً كعلم له مبادئه وقوانينه في تسعينات القرن الفائت، وبالتحديد حين لاحظ الباحث الأخير دعايات شركات التبغ التي تهدف إلى “تجهيل” المستهلك بمخاطر التدخين من خلال “إثارة الشكوك في البحوث العلمية المبرهنة والمثبتة والتي تربط التدخين بمرض السرطان”، أو حين لاحظ تلك الأبحاث العلمية التي تناهض المخدرات في حين أنها تروج لها! فقد تقرأ بحثاً مطولاً يبحث في مخاطر المخدر وآثاره المدمرة على الصحة والمجتمع، ويأتي بتلك البراهين المثبتة علمياً ثم يدس عبارة بوسط البحث تقول “احذر المخدرات فهي (قد) تؤدي إلى الإدمان من الجرعة الثانية” أو من الجرعة الثالثة مثلاً، وهنا يكمن علم التجهيل، فهذا البحث العلمي يدعوك لتجربة المخدر طالما أنه لا يؤدي إلى الإدمان من التجربة الأولى أو الثانية، بينما الحقيقة تقول إن تجربته تؤدي إلى الإدمان من المرة الأولى، فتجار المخدرات استخدموا علم الجهل في سبيل تجارتهم أيضاً من خلال قوانين ثابتة ورصينة، كما لاحظنا.

لاحظ عزيزي القارئ “الجهل” لم يعد عدم العلم بالشيء أو “انعدام المعرفة” فهو غدا الآن ليكون لبَّ العلم بالشيء ضمن أسس واضحة وصريحة في سبيل خدمة أهداف سياسية بالضرورة، واقتصادية أو تجارية، لكنه بات يستخدم بشكل أوسع من قِبل السلطويين والسياسيين، وخاصة العرب منهم، كما يقول الفيلسوف الأميركي “أفرام نعوم تشوميسكي” حين أسست الإدارة الأميركية لما يعرف اليوم بمجال “العلاقات العامة” لبث الجهل بين أطياف المجتمع الأميركي من خلال لجان العلاقات العامة لتضليل الرأي العام الأميركي والزج به في أتون الحرب العالمية، وكذلك غزو العراق من خلال ما عرف بـ”Creel commission” لجنة كريل التي بثت التضليل على الشعب الأميركي بأسس ممنهجة واستراتيجية على أساس علم الجهل، والتي استندت وقتها على أسس ثلاثة:
– بث الخوف لدى الآخرين.
– إثارة الشكوك.
– صناعة الحيرة.

وليس هناك أشد وضوحاً من أنظمة وحكومات العرب كأمثلة على ذلك، وخاصة تلك الأنظمة البوليسية كنظام الأسد والأنظمة العسكرية كنظام السيسي حالياً والحكم العسكري المصري عامة، ونظام صدام حسين في العراق قبل التسعينات.

غير أن معظم أنظمة العرب لم تجد بُداً من استخدام علم الجهل بكل أسسه وتفاصيله، بل وبرعت في ذلك وزادت عليه حداً وصل بالشعوب عامة لتقديس زعمائها ورؤسائها وملوكها وتنزيههم، وبالمناصرين والمؤمنين خاصة حد العبادة والطاعة العمياء وحياكة الأساطير حولهم.

لقد عمدت تلك الأنظمة العربية الاستبدادية إلى تطبيق تلك الأسس بشكل حقيقي وفعال للغاية جعل المناهضين من الشعب حتى في أتون الحيرة، إلى جانب قناعة المناصرين التامة من خلال:
– خلق أعداء وهميين، والهدف تحشيد وتحريض الرأي العام، وأخذ الشعب للاعتقاد بالمستقبل المظلم الوحشي في حال عدم تفويض الحاكم بتلك الحرب، حتى ولو كانت تلك الإبادات والتصفيات الجماعية في الشوارع! وهنا تصبح معركة بقاء تخطَّت لقمة العيش والأمان، الذي بدأ منه أصلاً.
– إثارة الشكوك، وخلق أعداء من نفس الشعب -أنتم شعب ونحن شعب- بحيث لم يعد هناك أعداء أشد خطورة خارج الحدود من أولئك الأعداء الذين هم داخل الحدود والذين يعيشون بينكم وبيننا، وهنا تظهر أهمية “اﻹعلام” والتقارير الوهمية والأخبار المفبركة المكثفة واستضافة المفكرين والصحفيين والكتاب ورجال الدين والفنانين بتحليلاتهم المدفوعة والمملاة عليهم بخطوطها العريضة وتفاصيلها الدقيقة.
– كثرة المعلومات المتضاربة، هذه مرحلة متقدمة من مراحل تطبيق علم الجهل على الشعوب -العربية- بحيث يدخل المواطن بغض النظر عن توجهه في دوامة من الحيرة حول ما يدور حوله من أحداث وتطورات دراماتيكية، وهنا يزيد خوفه من المستقبل وما هو آتٍ، فيلوذ بقبول ما لا يمكن قبوله وتصديق ما لا يمكن تصديقه والاختباء تحت أجنحة الوحش هرباً من الخوف والشر! وهذا هو ذروة مبتغى تطبيق علم الجهل من قبل الأنظمة -العربية- على شعوبها.

لذلك هي دعوة لتلك الشعوب -العربية- التي تعاني الانحدار المستمر في كل أمورها المادية والإنسانية والمعنوية وما زالت، دعوة لتلك الشعوب التي تباد أو تنتظر ذلك، دعوة لتلك الشعوب الحائرة، هي دعوة ﻹعادة النظر بأولئك الذين يحكمونهم ويتحكمون بهم وبحاضرهم ومستقبلهم وأمنهم وخوفهم ولقمة عيشهم وتعايشهم ومعيشتهم وإنسانيتهم، دعوة لهم ليتبصروا هل يطبق عليهم علم الجهل ويجهل عليهم؟

شاركها